رجل جميل!

TT

لفظ رجل الدولة لا يطلق بسهولة على كل من سبق له الخدمة في القطاعات الرسمية، فاللفظ يطلق عادة على من تنطبق عليه مواصفات استثنائية، أهمها: حكمة عميقة، صبر كبير، رؤية ثاقبة، قراءة متأنية وواسعة بمجريات الأمور، وتوازن في القرارات والسياسات. وفي السعودية التي عرفت أرتالا من الناس الكرام الذين خدموا مع الدولة بشكل أو بآخر، وهنا من الممكن الخروج بتصنيفين عن هؤلاء الرجال.

فهناك رجال خدموا الدولة، وهناك آخرون خدموا في الدولة، وشتان الفارق بين المثالين. ولعل أحد النماذج الجميلة والفريدة لعينة من رجال الدولة بالسعودية هو الشيخ جميل الحجيلان، «وهو الذي أسعد بجيرته في صفحة الرأي هذه في كتاباته بين الحين والآخر» واليوم يسعد جيل جديد من القراء بالاطلاع على رؤية الرجل التاريخية لأحداث مهمة تؤثر الآن على مسائل بالغة التعقيد، وقد تابع الكثيرون هذه الرؤى في قراءتهم لما كتبه عن الكويت، وعن الملك فيصل، وعن إيران على سبيل المثال لا الحصر، مقدما «لمحات» بالغة الدلالة.

الشيخ جميل الحجيلان كما يناديه محبوه، وهم كثر، عاش لبلاده وخدمها بنجاح في أكثر من موقع بارز، ففي حقبة ترؤسه لوزارة الإعلام كانت له البصمة الواضحة لتأسيس الإعلام السعودي الحديث، وخصوصا إطلاق الإنتاج التلفزيوني بشكل حضاري ومتوازن، واعتبرت فترته فترة ذهبية مهمة في مرحلة تأسيس التلفزيون. كما لعب دورا أساسيا في بناء علاقات «محترمة وقوية» بين بلاده وفرنسا، ليصبح لبلاده حضور مهم جدا في قلب أوروبا، وبنى مع هذه الدولة علاقة إستراتيجية أساسها الاحترام والتكافؤ في العلاقة، نتجت عنها سلسلة من الاتفاقيات والعهود غير المسبوقة في العلاقة بين البلدين.

والمرحلة الأخرى في حياة الرجل كانت ترؤسه للأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي، وهي الفترة الذهبية لهذا الكيان حيث كانت هذه الفترة تحمل أقل الخلافات والتوترات بين الدول الأعضاء، وكان رجلا يفرض بقامته وشخصيته وهيبته الحضور والاحترام، فنال مكانة مميزة تليق به. هناك تشوق هائل لدى عدد غير بسيط من الناس بأن يقوم «أبو عمار» بكتابة مذكراته، وتقديم «حصته» من صناعة التاريخ السعودي الحديث، بما عايشه من فصول مثيرة ولافتة ومهمة. أعرف تماما أن السير الذاتية في السعودية لأصحاب العمل السياسي هي مسألة غير مرحب فيها، لأن الكثير يفضل العمل بأسلوب «ليس كل ما يعرف يقال» أو«دع الطابق مستورا» وغيرها من الامثال السلبية نوعا ما، إلا أن أمانة التاريخ وأحداثه تقتضي رواية من عايشوه حتى لا يتطفل الغير بادعاء الحقيقة، وسرد تفاصيل وأحداث لمآرب أخرى. الشيخ جميل الحجيلان أسر الناس ومحبيه بأدبه وأخلاقه وحسن معشره، ففرض احترامه على القريب والبعيد والصغير والكبير، وبات ممن يجب تصنيفه كثروة وطنية مهمة.

أعلم تماما أن الشيخ جميل الحجيلان ليس وحيدا في ميدان التصنيف المميز، وأن هناك رجالا آخرين خدموا بلادهم برقي وتفان، وأذكر هنا تحديدا الشيخ محمد النويصر، والسيد أحمد عبد الوهاب، اللذين في جعبتهما الشيء الكثير، ومن حق الناس معرفة تفاصيله حتى تزال ألغاز من بعض القصص والروايات، التي تردد كما لو كانت أساطير من الزمان القديم. رجال الدولة عملات نادرة، والبقاء على مكانتهم وتثبيت ماقدموا عبر رواياتهم للتاريخ مسألة ليست خيارية بل مطلوبة. وكل الأمل أن «يسمح» لهم بالقيام بذلك بلا قلق ولا إحراج، لأن التاريخ كتابته ملحمة، ويبقى التحدي قائما لمن سيقوم بذلك. الشيخ جميل الحجيلان رجل كسب احترام الناس فكرمته القلوب بلا إجبار.