الإرادة الحرة والإرادة العامة.. في عراق اليوم

TT

مع أن الحديث السياسي الوضعي يتجنب الخوض في القدر وفي كل موقف يستبعد المسؤولية بأنواعها، فإن المفارقات والمفاجآت والغرائب التي حدثت وما زالت تقع في العراق تضطر المعلق السياسي إلى اللجوء إلى القدر وما شاكله بعيدا عن الغموض الكامن في ما وراء هذه المفارقات والمفاجآت والغرائب.

ففي الوقت الذي يملك فيه العراق تراثا حضاريا مشرقا في الآداب والفنون والعلوم، كان أهله من العلماء والفقهاء والقضاة والحكماء مبدعين فيه، أو مجددين، وأهلته هذه المنزلة الحضارية ليكون قِبلة الرواد الباحثين في شتى صنوف الثقافة والعلم والفن لعصور شتى، فإن هذا العراق نفسه قلما نعم أهله بالسلام، وهنا أستعير القدر لتفسير ظاهرة القلق والتوتر في التاريخ العراقي البعيد والقريب من دون أن أبرئ مراكز القرار والتأثير في المجتمع العراقي من المسؤولية تجاه تفاقم التناقضات التي برزت وأثرت في العلاقة بين أهله المختلفين في الدين أو المذهب أو في الأصل.

ففي الوقت الذي كان فيه من الطبيعي لمجتمع متمدن متحضر أن يسود التفاهم والتعارف فيه كالمجتمع العراقي الذي شهد انبثاق الفنون والعلوم، رأينا الخصومات تجر أذيالها من جيل إلى جيل، وتحفز في الذاكرة الجمعية العراقية عقلية الافتراق والاغتراب، وكأن هذا الشعور السلبي الطاغي العام هو أحد الأسباب التي جعلت العراقيين يرضخون لطاغية مستبد قادهم إلى حروب مهلكة من دون مبرر قانوني أو وطني أو شرعي، ومن دون أن ينبس أحد من ملايين العراقيين ببنت شفة.

وكنا نظن أن اليوم الذي يتحرر فيه العراقيون من الكابوس الثقيل الذي جثم على صدورهم عقودا من السنين، واستولى على إراداتهم الحرة التي بها يحقق الإنسان إنسانيته، سيكون يوما فاصلا يشعرون فيه أنهم ولدوا من جديد الولادة الآدمية، وسيتوجه كل عراقي إلى أخيه الذي شاركه في محنة الأيام السود الطويلة، بالعناق والمصافحة، وسيتبدد ركام السنين مما حمله التاريخ الطويل من صراعات ذات جذور شتى في خضم التغيير العميق الذي يبدأ تاريخه في يوم 9/4/2009. ويبدو أنني كغيري من العراقيين المتفائلين رغم حرصي على التمييز بين التقدير الموضوعي والتقدير الذاتي، وقناعتي بأن الرأي المسبق قد يؤثر في التقدير الموضوعي، فإنني وقعت في فخ المشاعر ومزجت بين التقدير العقلاني للموقف، والتقدير المتأثر بالأحلام والمشاعر، حين توقعت في التغيير ما لم يقع، ولو كان المرحوم العلامة علي الوردي موجودا لما وقع فيه.

ومهما يكن الأمر، لم يكن رد الفعل حكيما ولا متقنا ولا مدروسا، بحيث تتم الموازنة بين المصالح والمفاسد في ما يتخذ من مواقف تعكس ردود الفعل، فبدلا من أن نستقبل الحرية التي هي الهدية الحقيقية لكرامة الإنسان، بما تليق به من فضاءات مفتوحة تطلق الطاقات المكبوتة لبناء عراق جديد يتجاوز عقد الماضي ومآسيه، ويواسي المنكوبين في ظل النظام الذي كان استعباد المواطن داخل الوطن منهجا عقديا ومرسوما مستمرا، ويعزز الالتحام الوطني بضمان مشاركة الجميع في ثمار الديمقراطية، فبدلا من كل هذا وذاك، أصبحت الحرية نفسها في قفص الاتهام ولعمري إنها الطامة الكبرى، حيث تكون الحرية موضع تساؤل وشكوك، وتُطفأ كل الشموع، وتغلق كل مسارات التنوير والأمل ويعود العراق المبتلى بالتضاد إلى كابوس أبشع. وبدلا من البحث عن الهوية الجامعة التي تحترم الخصوصية وتفتح آفاقها، يجري التركيز على الهوية الضيقة المانعة واقصد بها الهويات ذات الجذور الطائفية والعشائرية التي تحجز الفضاءات التي يجب أن تكون مفتوحة للجميع، ولا تسمح بالمشاركة الحقيقية لتلتقي الإرادات العامة في المشتركات التي تشكل الهوية الجامعة.

ولا يعني هذا أن الإرادة العامة للشعب العراقي المجسدة لمصالح أفراده ومكوناته كانت غافلة عن المشهد الذي يجب أن يصور للمستقبل، فقد كانت واعية وسجلت حقيقة الصورة التي يجب أن تتجلى في عراق المستقبل المتميز باحترام الأفراد والمكونات، وكانت وثيقة الدستور تعبيرا بليغا عن هذا الاتجاه، وقراءة عميقة لمقتضيات التعايش الديمقراطي السلمي بين مختلف مكوناته، وكانت واعية للتوازنات السياسية التي لا بد منها لاستقرار العراق في مدار جديد تختفي فيه الخصومات المدبرة لمصالح فئوية ضررها أشد من نفعها.

ولكن المؤسف هو أن المتشبثين بالذاكرة السلبية في العلاقات الوطنية لم يكونوا قادرين على فهم واستيعاب القيم الدستورية الحديثة التي تنبذ الاستئثار، وترفض الشمولية والاستبداد وتبني الدولة الحديثة التي لا سيادة فيها لفرد، بل للقانون الجامع المحترم للخصوصيات بشفافية عالية، ولا غرابة في هذا الموقف من أناس فقدوا مصالحهم بهذا التغيير، ولكن الغريب أن يتصدى للنهج الجديد رجال كانت لهم بصمات واضحة في التغيير، وقد ذاقوا الأمرّين من النهج الدكتاتوري الساقط.

وتزداد الغرابة في أن هؤلاء، أعداء الديكتاتورية بالأمس، يستنسخون النهج القديم بألوان مختلفة، ويشيعون الولاء للفرد جسدا وصورة وقدرة، وكأنهم يشعرون بالضيق تجاه المعايير الحضارية التي قررها الدستور لصياغة نظام سياسي فيدرالي يوزع السلطة والثروة بالعدالة والإنصاف، وكأنهم، كعادة المغلوبين الذين تبهرهم ثقافة الغالب وإن كانت لا صلة لها بالقيم الحضارية، آمنوا بأن الدولة لا يستقيم أمرها من دون هيمنة شاملة للفرد القائد، وهي الاتجاه المعاكس لما ناضلوا وناضل معهم العراقيون من أجله: دولة القانون الذي يعكس الإرادة العامة للمواطنين، ويؤدي لكل ذي حق حقه.

هذه المفارقة الغريبة لا تنسجم إطلاقا مع الحكمة التي هي ثقافة المسلم في أمور دنياه، كما أن القرآن الكريم هو ثقافته في أمور دينه، وهي الشعار الذي يتسابقون في الالتزام بمضمونه. فهل الحكمة أن يظل العراقيون يعانون من ألم الحياة وموت الحياة قرنا بعد قرن؟ فلسفة الشرائع هي تحقيق الشراكة والتوفيق بين المصالح والحيلولة دون اصطدام الغرائز والأنانيات، والقانون هو الصلح الدائم في المجتمع، وحين تختفي فلسفة القانون في الواقع التطبيقي تسود شريعة الغاب، وتشيع ثقافة الفناء بدل البقاء.

ومن غرائب المفارقة بين الكائن وبين ما يجب أن يكون، أن الشعار الذي يعد علاجا وطنيا هو المصالحة الوطنية، فالقيادات السياسية تتفاخر بجديتها في هذا الشعار أي في إزاحة أسباب التوتر الوطني والذي يجب أن يكون هو المصافحة والعناق. والمصالحة عودة إلى نكء الجراح، أما المصافحة فهي عقد جديد تسوقه المحبة والمصلحة المشتركة، والإرادة المشتركة لتحقيق العدل الذي ينظر إلى كل أطراف المشهد العراقي بمنظار واحد، ولا استثناء إلا للقتلة المشهودين الذين لا يقف معهم إنسان منصف.

* عضو التحالف الكردستاني في البرلمان العراقي