مناخ سياسي جديد يواجه إسرائيل في واشنطن

TT

ويتواصل شهر مايو (أيار)، شهر النكبة الفلسطينية، حاملا في طياته آمالا ومخاطر. آمالا بحل منشود، ومخاطر من حلول تدور حول المشاكل ولا تجرؤ على الدخول إلى أعماقها، حتى لا تغضب «الحليف» الإسرائيلي. وتظهر في طيات الآمال والمخاطر علامات إيجابية، ترافقها فورا وفي اللحظة نفسها علامات سلبية. في العلامات الإيجابية نستطيع أن نسجل ثلاثة مواقف دولية برزت فجأة ضد إسرائيل:

الموقف الأول: التقرير الذي أصدرته الأمم المتحدة، والمكون من 184 صفحة، بخصوص الممارسات الإسرائيلية خلال العدوان الأخير على قطاع غزة، متهما إياها باستخدام وسائل قصف تدميري لا تتلاءم وتوازن القوى في المنطقة، إضافة إلى استهدافها لمؤسسات الأمم المتحدة (الأونروا) المختصة بالتعليم والغذاء. وقد بادرت إسرائيل إلى الاتصال الفوري بالأمم المتحدة للحد من تأثير التقرير ومن النتائج التي قد تترتب عليه، من زاوية طلب الإدانة لحكومة إسرائيل، أو طلب المحاكمة لبعض قادة إسرائيل الكبار من السياسيين والعسكريين.

الموقف الثاني: الدعوة الأميركية الموجهة إلى إسرائيل، والتي صدرت عن وزارة الخارجية الأميركية، لتطالبها بضرورة الانضمام إلى الدول التي وقعت على معاهدة الحد من انتشار السلاح النووي. وهي دعوة أعلنتها (روز جوتملر) مساعدة وزيرة الخارجية الأميركية. وقالت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، إن الناطقة الأميركية الرسمية أعلنت أن بلادها ستقوم بالضغط على إسرائيل للتوقيع على المعاهدة المذكورة، وأنها ستتعامل مع الموضوع بطريقة مختلفة عن السابق، حيث كانت تشكل حماية علنية لإسرائيل في ملف السلاح النووي.

الموقف الثالث: المعلومات التي أطلقتها (لجنة مكافحة التعذيب) التابعة للأمم المتحدة، والتي تحدثت عن سجن إسرائيلي سري، يحمل اسم (المنشأة 1391)، مخصص لاحتجاز وتعذيب معتقلين فلسطينيين وعرب، وبطرق قاسية للغاية. ونددت اللجنة باستخدام جهاز المخابرات العامة (الشاباك) لهذا المركز، وقالت: إن عشرة خبراء مستقلين، وهم أعضاء لجنة مكافحة التعذيب، فشلوا في الوصول إلى معلومات حول المنشأة المذكورة. وتمنع السلطات الإسرائيلية اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ومحامي المعتقلين، وعائلات المعتقلين، من الوصول إلى هذه المنشأة. وتواجه إسرائيل في هذا الإطار تهما بالاعتقال والتعذيب والقتل الذي يطال بعض الذين تم التحقيق معهم ثم انقطعت أخبارهم.

وكانت وزارة شؤون الأسرى الفلسطينية، قد أكدت في تقرير لها بمناسبة اليوم العالمي لمناهضة التعذيب (26/6/2008)، إن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تمارس التعذيب استنادا إلى قوانين رسمية، الأمر الذي يعني إضفاء الشرعية على التعذيب، خلافا لكل القوانين والمواثيق العالمية. كذلك تؤكد مؤسسة (بتسيلم) الإسرائيلية، المعلومات ذاتها عن إسرائيل، وأن التعذيب فيها موجه ضد المعتقلين الفلسطينيين.

إن هذه المواقف الثلاثة جديدة من نوعها في التعامل مع إسرائيل، إذ لم يسبق للأمم المتحدة أن تعاملت بمثل هذا الوضوح مع مواقف إسرائيل وجرائمها في زمن الحرب. كما لم يسبق للخارجية الأميركية أن أعلنت أنها ستغير أسلوب تعاملها مع إسرائيل، وأنها ستلجأ إلى أسلوب الضغط عليها، وفي قضية ذات طبيعة استراتيجية تتعلق بالسلاح النووي. ولعلنا نذكر هنا كيف انصب الغضب الأميركي، غضب مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية في حينه، على بطرس بطرس غالي، عندما كان أمينا عاما للأمم المتحدة، لأنه تجرأ وأجاز نشر التقرير الذي أعدته الأمم المتحدة نفسها، عن مجزرة «قانا» التي ارتكبت أثناء حرب إسرائيل العدوانية ضد لبنان عام 1996، ودمر فيها مقر لقوات الأمم المتحدة، وقتل حوالي مائة مدني من النساء والأطفال الذين لجأوا إلى ذلك الموقع للاحتماء بداخله. وكان أن دفع بطرس غالي ثمن هذه «المخالفة» منعه من التجديد له في منصبه. وكان بطل تلك الجريمة الإسرائيلية في حينه شمعون بيريس، رئيس الوزراء. وتشاء الصدف أن تأتي إدانة الأمم المتحدة للجريمة الإسرائيلية في غزة، وأن يتم السماح بنشرها، بينما يزور واشنطن رئيس الدولة الإسرائيلي شمعون بيريس، فيتلقى الصدمة بصدره، ويبادر للدفاع عن الجريمة متهما الأمم المتحدة بالانحياز.

ولعل هذه المواقف الثلاثة تشير أيضا إلى أن واشنطن بدأت فعلا في ممارسة تكتيك سياسي جديد مع دولة إسرائيل، تكتيك لا يعادي إسرائيل ولا يتخلى عنها، ولكنه يتخذ المواقف تجاه إسرائيل انطلاقا من مصالح أميركا لا من مصالح إسرائيل، وكما نصح بذلك كبار الأكاديميين الأميركيين، وكبار المستشارين للرئيس أوباما. (حسب ما أوضحنا ذلك في مقالنا السابق).

يحدث كل هذا بينما تدخل التسوية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين في مرحلة جديدة كليا، لا يعرف أحد إن كانت ستثمر أم لا. ولكن ثمة ملامح لهذه التسوية تتسم بالغرابة. فرئيس وزراء إسرائيل الجديد بنيامين نتنياهو، يأتي إلى السلطة حاملا شعارا مناقضا لكل ما اتفق عليه في إطار هذه التسوية، والتي خيم عليها شعار الدولتين. إنه يعلن تخليه عن شعار الدولتين، ثم يعلن سعيه للعودة إلى شعار الحكم الذاتي، فتعود دراما التفاوض بذلك إلى فصلها الأول الذي بدأ عام 1993. وهو يطلق هنا شعارا جذابا ولكنه مضحك. فالسابقون في رأيه عملوا من الأعلى إلى الأسفل، وهو يريد أن يعمل من الأسفل إلى الأعلى. ويقدم نتنياهو هذه اللعبة الجديدة، من الأعلى إلى الأسفل أو من الأسفل إلى الأعلى، على أنها ابتكار جديد لا مثيل له.

ونتنياهو لمن لا يتذكر، أصبح رئيسا للوزراء عام 1996، وربح المنصب آنذاك ضد حاميه الحالي ومتعهد الترويج له: شمعون بيريس، الخاسر الأكبر في كل الانتخابات التي خاضها. وكان مطلوبا من نتنياهو آنذاك أن يواصل المفاوضات لاستكمال الحكم الذاتي الفلسطيني، ولكن عهده شهد ثلاث سنوات (1996 ــ 1999) خلت من أي تقدم على هذا المسار. والسبب أن شخصا أميركيا زاره عندما أصبح رئيسا للوزراء، وقال له سرا، إن عليه أن يخرب اتفاق أوسلو، وأن لا يقدم أي تنازل للفلسطينيين، وأن عليه أن يحافظ على إسرائيل قوية ضد العرب. كان صاحب تلك الرسالة هو ريتشارد بيرل (أمير الظلام)، كما كان يلقب في أوساط المحافظين الأميركيين الجدد، وقبل أن يصلوا إلى البيت الأبيض بسنوات. وقد سمع نتنياهو نصيحتهم، وعمل بها سرا، وأصبح عمودا أساسيا من أعمدة سياستهم. وها هو نتنياهو، يعود إلى السلطة من جديد، مع فارق نوعي كبير، وهو أن المحافظين الجدد قد أصبحوا خارج البيت الأبيض، وخارج السياسة الأميركية، وربما خارج التاريخ، بينما يواصل نتنياهو التصرف وكأن زملاءه القدامى قد أصبحوا سادة العالم. يرى نتنياهو نفسه ولا يرى ما حوله، يريد ما يريد ولا يرى ما يريد حلفاء إسرائيل الجدد في البيت الأبيض، يأتي ويخطط ويصرح، وكأن «أمير الظلام» قد زاره من جديد، وطمأنه أن المحافظين الجدد عائدون، وأن عليه أن يكون جاهزا لاستقبالهم.

وفي الجانب المناقض لنتنياهو، يقف المفاوض الفلسطيني. ويعلن هذا المفاوض يوميا أنه يتطلع إلى حل حسبما رسمت «خطة خارطة الطريق». وأن الجانب الفلسطيني نفذ كل ما هو مطلوب منه في تلك الخطة (وقف الإرهاب، واعتقال الإرهابيين، ومحاكمتهم، ووقف التحريض ضد إسرائيل، وإنشاء أجهزة أمن فعالة تواصل التنسيق الأمني مع الإسرائيليين)، وبقي أن ينفذ الجانب الإسرائيلي ما يترتب عليه. ويعلن هذا المفاوض يوميا أن خطة خارطة الطريق تتضمن الشرعية الدولية، كما تتضمن الاعتراف والإقرار بخطة السلام العربية، وهذا يعني أن على العرب جميعا أن يؤيدوا خطة خارطة الطريق. وهكذا يكون المفاوض الفلسطيني أيضا ساعيا إلى التعامل مع الرئيس الأميركي الجديد ودعوته لتغيير سياسة الولايات المتحدة الأميركية، ولكنه مصر في الوقت نفسه على التمسك بوثائق وخطط المحافظين الجدد الذين خرجوا من السلطة ملعونين. كيف نفسر هذا التناقض في الموقف الإسرائيلي، وفي الموقف الفلسطيني؟ كيف نفسر هذا التلاقي بين الإسرائيليين والفلسطينيين في اعتماد منطق المحافظين الجدد حتى بعد أن زالت دولتهم؟

إن التغيير القادم ربما من البيت الأبيض، يحتاج إلى تغيير مماثل في اللغة السياسية الإسرائيلية، كما في اللغة السياسية الفلسطينية، وإلا فإن المصادمات واقعة لا محالة. وإذا كان المحافظون الجدد قد خرجوا من البيت الأبيض، فإن عليهم أن يخرجوا أيضا من كل عقل سياسي يتعامل مع قضايا الصراع العربي الإسرائيلي.