الصدريون: مرحلة ما بعد العواطف

TT

يدين التيار الصدري بوجوده إلى السيد محمد صادق الصدر، ورغم أن جزءا كبيرا من نفوذ الأخير كان مقترنا بقرابته لمحمد باقر الصدر مؤسس حزب الدعوة، إلا أن الفقراء والمهمشين الذين اتبعوا الصدر الثاني كانوا في جلهم شبابا لم يعاصروا الصدر الأول ولم يكونوا بحاجة لمعرفته إلا من زاوية انه كان معلما للصدر الثاني الذي تمكن في إطار ظرف سياسي واجتماعي محتدم أن يمد جذورا قوية بين سكان الأطراف والأحياء العشوائية في المدن الشيعية، الذين كانوا مغيبين تماما من تفكير النظام السابق إلا عندما يبلغون سن الجندية أو يستدعون لخدمة الاحتياط، كانوا بالملايين، مقسمين على عوائل كبيرة تعيش في بيوت متهالكة صغيرة (مدينة الصدر (الثورة) نموذجا) إلى الحد الذي كان يستعصي عليهم التواجد في البيت جميعا في وقت واحد، كان هؤلاء الشباب الذين توجد غالبية من بينهم لم تحظ بتعليم جيد إضافة إلى أقلية من خريجي جامعات يشاركون الصنف الأول بطالة حقيقية أو مقنعة ولا يرون أفقا لحياة أفضل. كان معظم الشباب الصدري يعملون ككسبة أو عمال، وقليل منهم كان يبحث عن رزقه بـ«وسائل أخرى» لكنهم كانوا يشتركون بإحساس عميق بالظلم والاضطهاد والتهميش، كانوا ملايين بلا صوت، ليأتِ الصدر الثاني ويقدم لهم صوتا. في البداية كان النظام الخائف من انفجار الهامش تحت طائلة جوع التسعينيات والراغب بسحب النفوذ داخل الحوزة من رجال الدين الأجانب قد قبل هذا التحرك، لكنه انقلب عليه عندما بدا أن الأمور ستخرج من السيطرة وأن الصدر الثاني تمكن عبر خطب الجمعة ووكلائه في المحافظات أن يعبئ ملايين لم تكن أجهزة الدولة والحزب قادرة على تعبئتهم في مسيراتها المزيفة إلا بالتهديد والوعيد. ما يغيب عن الكثيرين هو أن هؤلاء الفقراء، وكثير منهم ليسوا متدينين، إنما كانوا يبحثون عمن يخاطبهم ويتحدث بصوتهم ويعيش آلامهم ويقدم لهم صورة للخلاص، وفي مثل هذه البيئة لا يمكن لأتباع ماركس مثلا أن يقنعوا أو يجذبوا من تربى على أن يفك كربه أو يبكي همه عند قبر الحسين!!

بغياب الشيخ بعد سقوط النظام كان هذا الزحف هائما باحثا عن قيادة تمثله غير واثق بأولئك الذي كانوا غائبين في المنافي سنوات الجوع والحرمان والذين لا تشكل أسماؤهم شيئا لجيل ولد في الثمانينيات في مجتمع قد تعسكر وعزل تماما عن العالم، كان الابن الباقي للصدر الثاني هو الملاذ، فإن لم يكن قد امتلك الشرعية الدينية فإن في عروقه تجري دماء «المولى المقدس» كما يسميه بعض أنصار التيار، كان الالتفاف حول مقتدى الصدر تعبيرا عن الحقيقة التي يتجاهلها الكثيرون، إنهم لم يكونوا بحاجة إلى رجل دين بل كانوا بحاجة لقائد عندما حانت للمرة الأولى فرصة أن لا يكونوا في الهامش. اندفعوا بعاطفية كبيرة وارتكبوا أخطاء، تحولوا إلى ظاهرة قلقة ومقلقة تصرخ في كل اتجاه وفي كل مكان، كانوا يريدون إعلان وجودهم لكنهم وهم الذين لم يعرفوا في حياتهم ممارسة العمل السياسي أو التحرك «الطوعي» المنظم لم يكونوا قادرين على فعل ذلك إلا عبر الانفجار العاطفي الذي سرعان ما تحول إلى انفجار عسكري عندما أصبحت أحياؤهم مسرحا لتفجيرات القاعدة ومن وراءها، وصارت أجساد الفقراء في مدينة الصدر وغيرها من مدن الحرمان جسرا يعبره مقاتلو القاعدة إلى الجنة، وفي غياب دولة حامية أو قوة احتلال تتحمل مسؤوليتها أو طبقة سياسية مسؤولة ظهر جيش المهدي، وكان الصدام الأهلي في بغداد وبقية المدن صراعا بين مهمشين يريدون إعلان الوجود وعالم غير آبه، كانوا قوة هائمة بلا هدف واضح أو بأهداف معلنة مغرقة في مثاليتها أمكن اختراقها من كل أصحاب الأجندات.

خلافا لمعظم التيارات الشيعية الأخرى كان التيار الصدري لا يعاني غياب القاعدة الجماهيرية، ما كان يعانيه هو غياب القيادة الخبيرة التي تعبر عن قوة تلك القاعدة، لم يكن التيار واعيا بأصل وجوده وقضيته الحقيقية، كان سقوط النظام أمرا صعب التصور لدى فقراء ومهمشي الداخل، وفي لحظة الاصطفاف ما بعد التغيير لم يكن التيار سوى قوة عددية وزعيم شاب، بلا برنامج، وبلا هدف سياسي، وبلا تأصيل لمعنى السياسة، وبلا تصور للخطوة التالية، ولم يكن هناك من رصيد سوى شعارات الصدر الثاني التي كانت في معظمها ترميزا ومجازا في حدود ما كان ممكنا قوله في عصر صدام حسين.. تم استدعاء تلك الشعارات وتفسيرها حرفيا وخلطها مع القوالب الجاهزة عن الخير والشر والحق والباطل التي أنتجها التثقيف الذي ساد العراق والمنطقة منذ هيمنة الفكرين القومي واليساري مخلوطا بفكر المعارضة الشيعي، دخل التيار في معارك كبرى ضد طواحين الهواء أحيانا، معارك استهلكته واستهلكت طاقته لكنها لم تخدم قضيته الحقيقية، قضية المحرومين الباحثين عن مكان في وطن شاسع بخل عليهم بهذا المكان طويلا، هيمنت الآيديولوجيا فأصبح تأكيد الذات يتم عبر التعالي عن المعاناة الحقيقية، عبر استدعاء رومانسية المقاومات الكلاسيكية مقرونة بقصة الحسين التي لا بد أن تنتهي بالشهادة..

واليوم وبعد زيارة مقتدى الصدر اللافتة إلى تركيا ثم عقد الصدريين مؤتمرهم هناك، وفيما يبدو أنه مراجعة يجريها الصدريون لتحركهم، يلوح أمامهم تحدي أن يعرفوا ما يريدون، فهل أدركوا أن العالم أكثر تعقيدا من أن يكون صراعا بين ملائكة وشياطين، هل أدركوا أن السياسة مهما بدت دنيئة فهي مسلك اسلم من القتال مهما بدا مثاليا، هل أدركوا أن معارك طواحين الهواء زادت المحرومين حرمانا والمهمشين تهميشا، وهل أدركوا ان هؤلاء المهمشين ما زالوا بحاجة إلى صوت يحكي قضيتهم وأنهم أقرب لتمثيل تلك القضية من طبقة سياسية عزلت نفسها، وهل أدركوا ان صوت العقل غالبا ما ينتصر على صوت العاطفة، هل بدأوا مرحلة ما بعد العواطف؟؟