شجون ولا شؤون

TT

كل بلد له شؤون وشجون سياسية إلا لبنان، ليس له من الشؤون إلا شجونها. وكلما فكرت في لبنان تذكرت قول كازانتزاكيس صاحب زوربا، عجبي من هذا المخلوق الذي يرسل الآهات والتنهدات، ويطلق أصواتا أخرى أيضا. وكل مناسبة يفرح بها الناس هي في لبنان مبعث خوف ورعب وتعوذ. واللبناني المهاجر يرشح في المعارك الانتخابية أفضل الناس وأهم النماذج، ويرفض اللبناني المقيم إلا أن يقترع للذين تركوا على باب بيته 200 ألف قتيل ومليون مهجر وألوف المقطعين، ولم ينسوا أن يتركوا فوقهم تواقيعهم الصريحة.

لماذا التواقيع؟ لأن اللبناني يلوذ بحملة الرشاشات. ولأن اللبناني الذي في الجامعات يقاتل من أجل مطلقي المدافع. ولأن اللبناني، الذي يصير في الخارج جبران خليل جبران أو جرجي زيدان أو كارلوس غصن أو رالف نادر، يمضي عمره الوطني يصارع ويقارع ويحرض ويصرِّخ على التلفزيونات ويقاتل اليوم هنا وغدا هناك ويغير مبادئه وقناعاته وخنادقه بالسهولة التي يغير بها نعله.

وأعتذر من القراء على تعابير لم أعوِّدهم عليها. لكنني لست أجد بديلا. لقد ضاقت بنا التعابير في بلدنا وأهلنا. فالحالة اللبنانية تتكرر من جيل إلى جيل ومن سيئ إلى أسوأ، وترمي في الدمن والقاذورات، صورة ذلك اللبناني العبقري المجتهد عاشق الحريات، اللبناني الذي ما أن يعبر حدود بلده حتى يحمل مصباح علاء الدين ويبني العمارات ويوزع النجاحات كما يرمي الأرز في الأعراس.

انظروا إلى اللبناني المقيم الآن. تأملوا لمن يقترع ولمن يرفض أن يقترع. تمعنوا في اللوائح الانتخابية وكيف تدبر ومن تغفل وعلى من تبقي. قارنوا بين نواب 1969 ونواب 2009. ما هو سر هذه اللعنة: إحدى أجمل بقاع الأرض وأسوأ وأعمق وأطول هموم الأرض.

دخلت على بائع لبناني شاب في الرياض فقال: أريد مساعدتك. ابنتي في سنتها الجامعية الأخيرة في بيروت وقد جاءتنا في إجازة، لكنها الآن ترفض أن تعود. تقول لنا إن الحرم الجامعي الجميل أصبح مجموعة خنادق كريهة. الطلاب يدخلون الصفوف بعيون حمراء ويخرجون بعيون بيضاء. مربعات من الحقد والكره والتعبئة. وابنتي خائفة ولا أدري ماذا أقول لها. قلت له: اطلب منها البقاء، لا يجوز أن يفرغ لبنان من ذوي المشاعر.