الأمن وتناقض الأولويات

TT

رغم أني لا أخفي انحيازي للأمل ولإشاعة الإيمان بغد أفضل حتمي للعراق وأعظم من قوى وصور الحياة الشاخصة والناهضة من بين ركام الموت والدمار، إلا أن هذا الانحياز لا يجعلني أو يبرر لي أن أستبدل الأمل بالوهم، لذلك لا بد من الاعتراف بأن عراقا مستقرا آمنا تنخفض فيه المخاطر لمستوياتها في باقي دول المجتمع الدولي، أظن بل أكاد اجزم وبألم انه حلم بعيد المنال والتحقق لا على المستوى القريب فحسب، بل وأيضا على المدى المتوسط، أما على المدى البعيد فربما، لذا ووفق هذا السياق مصحوبا بخفض سقف الأماني لحد متواضع إلا انه واقعي يجعلنا نفهم ونقبل ونتعايش مع الاهتزازات الأمنية.

إن سبب هذه الهشاشة التي باتت تسم الوضع الأمني العراقي والتي يبدو أنها سترافقه إلى سنين قادمة، حيث يلحظ بأن مستوى العنف وصل إلى الحد الأدنى الذي من المتعذر إنقاصه الآن أو خلال المستقبل الزمني المنظور ناهيك عن هزيمته نهائيا، سبب هذا الارتجاج الأمني يمكن النظر إليه أو إعادته إلى مشكلة تناقض واختلال الأولويات. التناقض والاختلال في أول أوجهه هو بين السياسيين والمواطن، وهنا تبدو مفارقة لافتة لم يعتدها العالم الراسخ ولا ذاك الأخذ بالاتساع المضطرد في تبني الديمقراطية نظاما، فعادة ما يقوم السياسيون والأحزاب بتلمس وقراءة أولويات المواطن ويضعونها في برامج ومتبنيات ومشاريع بل غالبا ما يستشرفون القادم من مطالبه وأحيانا حتى الذي في طريق التبلور من حاجاته، أما عندنا فالأمر معكوس تماما، فهم يفرضون ويعيدون ترتيب أولوياته وفقا لمصالحهم أو استجابة لمنهج متعال يظنون أنهم مسددون به ولا يأتيه الباطل، وبالتالي على المواطن أن يرتب نفسه ويؤجل حاجاته ويواصل تضحياته وفقا لسلم أولوياتهم ومواقيت تحققها، وعليه فأولوية الفرد العراقي واستقراره يمكن أن تؤجل لتتقدم عليها المصالح السياسية، من هنا فإن هناك شكوكا متسعة بأن جزءا من مسببات الانتكاسات الأمنية هو بدوافع سياسية، والتي تتوزع الى قوى تضغط على أمن المواطن لتيئيسه من جدوى التجربة السياسية وبغية إفشال أطرافها، أخرى اعتبرت أن الحكومة استأثرت بالمنجز الأمني وجيرته أصواتا انتخابية وفوزا في انتخابات المحافظات على حساب منافسيها، وعليه لا بد من حرمانها من هذا التفوق عبر الإقلاق الأمني، ويتصل بذلك اقتران رئيس الوزراء المالكي بأنه الجالب للأمن والاستقرار وقائمته كمرسخة للقانون، فلا بد لخصومه من السياسيين من حرمانه من هذه المزية وإفشاله فيها وهز الأمن لهزه انتخابيا لاحقا ليصل الجميع لموعد الانتخابات العامة بلا مزايا ومتجردين من أية أوراق تفضيلية، وهنا تلحظ سمة لافتة تتسم بها المعارضة عندنا فهي لا تقدم مشروعا أو تجهد في إنتاج سياسات بديلة بل فقط تراهن على الإعاقة وتستثمر في الإفشال، كذلك من ناحية أخرى فإن دفع الأمن للتدهور سيوازيه بالضرورة تسخين الجو الطائفي عند ذاك تعيد الأحزاب الطائفية والإثنية تجديد نفسها كملاذات وحامية، وبالتالي هذا سيحقق لها عودة أدوارها الوصائية عبر إفشال أي تحرر من التصويت الطائفي ومنع أي عبور منه للوطني.

لا يوازي البعض من الطبقة السياسية بركنهم للقلب وإغفالهم لأي عاطفة تجاه شعبهم إلا «المقاومة» أو الجماعات المسلحة، والتي تمثل الوجه الثاني والأفعل في اختلال الأولويات، فهي منطقيا يجب عليها في هذه المرحلة أن تشيع الهدوء وتحفظ الاستقرار لكي تسقط أي ذرائع «للمحتل» في إطالة البقاء أو أي مما يجعله يتنصل من الالتزام بتوقيتات انسحابه، لذا فلا بد أن يكون تصعيدهم لدوافع أخرى غير تلك المجافية لهذا المنطق، حيث لا يمكن تفسير وفهم ذلك إلا بأنهم مستمرون بنهجهم في تقويض أي فسحة للأمل وفي السعي لإعادة خلق وتفعيل مناطق النزاع ومحاولة الدفع للحرب الأهلية عبر استدراج الانتقام المضاد وإدخال البلد ثانية في دوامتها، باحثين عبر ذلك عن كسب شيء من السلطة والقوة والتهيؤ لاستغلال الفرصة التي يبحثون عنها وينتظرونها فرصة الانسحاب الأمريكي والتوترات الداخلية، بجانب ذلك فإن لعمليات إثبات الوجود بعد فترة الكمون والانحسار نفعها الآخر في استدراج الدعم واستجلاب المتطوعين، وهنا يلحظ أيضا أن الأولويات بينة في افتراقها وتناشزها عن تلك التي للفرد المسالم، الذي منذ جده الأول الذي ترك حالة الطبيعة من اجل العقد الاجتماعي الذي أقام به الدولة، حيث تنازل فيه عن جزء من حقوقه لمصلحة حاكم محايد ليحفظ له باقي الحقوق وليغادر حالة الفوضى التي كان عليه فيها أن يحمي حياته تحت قائم سيفه، وهو الارتداد الذي تريده له اليوم الجماعات المسلحة.

جوار العراق هم ليسوا جوار البلقان الذين أنجحوا اتفاق دايتون فالتداخل القومي والمذهبي يبدو انه رتب حقوقا، بل أعطاها في الحالة العراقية الأفضلية والرجحان، لذا فعند التعارض يجب أن تسود المصلحة العليا وهنا تتلون وتتمظهر فهي حينا قومية أو إسلامية أو مذهبية حينا آخر، وهنا يبرز الشكل الثالث لتباين الأولويات، ففي الوقت الذي فيه أولوية العراقي لا تختلف عن باقي شعوب الأرض، بل هي في خانة أدناها، تلك التي لا تطمح إلا للكفاف، حيث حاجاته لا تتعدى الأمن والاستقرار ولقمة عيش وتعليم أطفاله، يقابل ذلك اخوة القومية والمذهب الذين يرون بأن هذه الحاجات الصغيرة بل المتصاغرة يجب أن تؤجل لمصلحة معارك المصير المزمنة، وهي فداء لسلامة أنظمة من الاهتزاز وان يسعدوا بأنهم سيكونون ورقة للتفاوض مع الأميركان، وحتى ذلك عليهم أن يظلوا راكنين للصبر ومبقين مدنهم ساحة خلفية لصراع لا ضير إن كانوا هم وقوده، فأخيرا وفقط في بحر الأسبوع الفائت، خلية مغربية للانتحاريين تنشط وعلى روايات أخرى تونسية، مغربي يقتل رجال شرطة بتفجيرهم في كركوك، سوري يمُسك بثوان قبل أن ينثر أجساد جمع مصلين في مسجد، حضور عربي مكثف لم يستحق من الإعلام والرسميين لفتة، ليس بسبب من قصور أو ازدواجية في المعايير، أو أن العراقيين لا بواكي لهم، بل بسبب اختلالنا في النظر لسلم الأولويات.