ساعدني كي أرحل عنك!

TT

الخطابات السياسية لها دور حيوي ورئيسي في تشكيل المزاج السياسي في العالم العربي. وهذه الخطابات كان لها أثر ليس بالبسيط في أن تكون مزيجا لافتا بين الحماس والسلطنة والهوس والتخدير الكامل والهلوسة. هكذا كان ينظر لتوظيف الخطاب السياسي لإحداث هذه النوعية من النتائج.

وفي خانات خطابات التخدير الكامل، لا يزال العرب يتذكرون، ولا شك، عينتين فاخرتين منهما، وتحديدا المقصود هنا خطاب التنحي للرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد كارثة هزيمة 1967، والتي كان هو السبب الرئيسي فيها، نظرا لرعونة إدارته وتسليم المهام الجوهرية لشخصية غير مؤهلة لهذا التحدي. والخطاب كان مسرحية وسردا لوقائع لا يمكن لعاقل أن يصدقها، وكل الهدف منها هو إعادة الشرعية لمنظومة حكم فقدت أهليتها بعد صدمة مهولة.

والخطاب الثاني الذي لا يزال يتذكره العرب هو ما ألقاه الرئيس العراقي السابق صدام حسين بعد انسحابه من الكويت وإطلاقه مسمى «أم المعارك» على هزيمته النكراء والمذلة، وهو أراد بهذا الخطاب بيع الوهم لشعبه وإقناعه بكلام وعبارات لا يمكن لأي راشد وعاقل حتى مجرد التفكير فيها.

والآن هناك خطاب ثالث عجيب وغريب ينضم لهذه القائمة المبهرة، وهو ما ألقاه أمين عام حزب الله حسن نصر الله، والذي وصف فيه يوم قيام مجموعة من الأشقياء التابعين لحركته بقتل وتدمير سكان وأملاك مدينة بيروت في حركة غادرة ضد أبرياء، بأنه يوم «مجيد». كان الناس يتوقعون الصمت وعدم التعرض للحادث الأليم وكانوا يتمنون ويحلمون بالاعتذار، ولكن حتما لم يكونوا يتوقعون أن يكون وصف يوم سقط فيه قتلى ودمرت فيه أملاك بالمجد!

ألهذه الدرجة اختلطت الأوراق في لبنان؟ إلى هذه الدرجة يلبس الحق الباطل؟ تبدو الأمور تسير في هذا الطريق. «الحكي» لا جمرك عليه و«ببلاش»، وكل واحد ممكن «يقول اللي بدو ياه». هذا هو المنطق السائد على المشهد السياسي، ولكن الخطاب حمل في طياته «كشف حساب نوايا» للأطراف الأخرى، فهو صرح بعلم «يقيني» بأنهم كانوا يخططون لحرب أهلية متكاملة، وأيضا كانوا يستعدون «لتقسيم» البلاد بحسب الطوائف، وبعدها يعدون العدة لجلب قوات أجنبية لاحتلال البلاد بحجة التدخل السلمي.

وهذا النوع من السرد يندرج تحت بند الخيال العلمي، لأنه يعتمد على كلام الصوالين والمجالس، ويردد أقاويل عاطفية اعتاد عليها اللبنانيون منذ نشأة استقلاله، نفس النغمة يتم ترديدها وإعادتها، والآن تقدم من جديد للعامة لإثارتهم وتحميسهم في «توقيت» مريب وغريب قبل أيام قليلة من انتخابات عامة كبرى.

ليس لبنان وحده الذي لم يعد يتحمل خطابات من هذه النوعية، بل العالم العربي بأسره يرقد على برميل بارود ملغم وجاهز للانفجار اسمه الاحتقان الطائفي، وكل كلمات من هذه النوعية هي زيت سريع الاشتعال يسكب عليه.

خطاب حسن نصر الله الأخير يضاف إلى سلسلة من الخطابات الحزينة «المؤرشفة» في ذاكرة العرب، والتي تشكل خيبات أمل كبرى، وبامتياز، يجب تخطيها وبقوة، وعدم السماح بأن تكون جزءا من مكون سياسات أو تشريعات، بل يجب أن تكون حافزا للتذكير بالخطر الذي يحدق بالجميع إذا سمح للتطرف بالانتصار.

[email protected]