تصدعات الحرب والسلام

TT

كما يقول العرب، فإن الرئيس الفلسطيني محمود عباس «استجمع من الضعف قوة» وقام بأمرين: تشكيل حكومة فلسطينية جديدة برئاسة سلام فياض، والإعلان عن انعقاد المؤتمر السابع لحركة «فتح» بالأراضي الفلسطينية في شهر آب (أغسطس) القادم بعد تعذر انعقاده لعشرين عاما وأكثر! وقد كان الاعتقاد أن الخطوتين ـ وبخاصة الأولى ـ ستزعج، أول ما تزعج، حركة «حماس»، التي تعتبر سلام فياض رمزا للعداء لها، كما تعتبر تشكيل الحكومة مانعا من استمرار الحوار بين الطرفين في القاهرة. إنما كان المفاجئ لغير العارفين، أن الذين هاجوا هم الفتحاويون أنفسهم، ويشمل ذلك بعض المقربين من محمود عباس، وسائر الكوادر الأساسية القديمة بالحركة. فالفتحاويون أنفسهم لا يحبون سلام فياض لأنه ليس منهم. وهم يعتبرونه رقيبا عليهم لجهة الفساد وعدم الانضباط وإساءة استعمال السلطة، بينما يعتبره الحماسيون عميلا أميركيا أو حتى إسرائيليا!

كان هناك إجماع على معارضة تشكيل الحكومة، رغم أن 12 وزيرا فيها هم من «فتح»، ومن بين المعارضين وزيران فتحاويان. على أن معارضة الحكومة، التي شكلها الرئيس، تظل «محمولة» إذا قورنت بالثوران الهائل الناجم عن مؤتمر «فتح» القادم. فقد حاول كل القدامى التأجيل بحجة الحيرة بين العقد بالخارج أم بالداخل. فكثير من أعضاء «فتح» بالخارج ـ ومن معارضي عباس ـ لن يأتوا إلى فلسطين من أجل المؤتمر. وهذا يخل بشرعية مؤتمر تلك الحركة التي تشكلت أصلا في أقطار الهجرة والنفي واللجوء. لكن من جهة أخرى، فإن «فتح» صارت «حزب سلطة» منذ العام 1993 واستقرت بالضفة الغربية وغزة، وأصبحت جزءا من الداخل الفلسطيني وظلت مشكلة اللاجئين كبيرة وقوية، لكن الأولوية لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الأرض الفلسطينية، وليس الاكتفاء بتعلية السقوف في أقطار اللجوء وحسب، كما تفعل التنظيمات العشرة المستقرة بدمشق وضواحيها، والتي صارت الآن في طهران أيضا! بيد أن الجدال بشأن الانعقاد بالداخل أو بالخارج انقضى، لأن الدول العربية التي استؤذنت رفضت ذلك، فلم يبق غير «العودة» للداخل الفلسطيني. وهنا ازداد الخلاف بدلا من أن يتراجع، وذلك لسببين: التفكك والضياع، الذي أصاب كوادر مضى عليها في العمل، بعد آخر مؤتمر عام لها، أكثر من عشرين عاما، والخوف من العزل والتغيير الذي سيصيب الجميع، أو هكذا يقدرون بعد الأحداث الهائلة والمدة الطويلة. ويقول أنصار التغيير إن هذه المدة الطويلة، واتفاقيات أوسلو، واستمرار الصراع مع إسرائيل ثم مع «حماس» بدون سقف آيديولوجي أو تنظيمي، كل ذلك يقتضي إعادة النظر في كل شيء. بينما يقول أنصار «الوضع الجديد» إن الحركة واجهت ظروفا مصيرية سواء مع إسرائيل أو مع «حماس» أو في الترتيبات التنظيمية الداخلية، ولذلك فلا بد من تهيئة الظروف والأجواء بشكل أفضل وليس «المسارعة» لعقد مؤتمر قد يتحول إلى الثأر من الكوادر الحالية، وقد يدفع باتجاه التفكك والانقسام. وبغض النظر عن وجاهة حجج هذا الطرف أو ذاك، فالذي لا شك فيه أن «السلام» أو «السلطة» أو أوضاع ما بعد أوسلو، كل ذلك غير من طبيعة وتوجهات قيادات «فتح» وكوادرها. وفي حين غلب على الكوادر بالداخل ـ وبخاصة بعد نشوب الصراع مع حماس ـ الإعراض عن آيديولوجيات التحرير، لصالح إقامة الدولة، وبناء مؤسساتها، فإن القلة الباقية بالخارج، لا تزال تعتبر التخلي عن «الكفاح المسلح» ترديا ما كان الوقوع فيه جائزا ولا مأنوسا. وقد بدا هذا الاختلاف في النظرة ـ سواء أكان ذلك واقعيا أم لا ـ حتى في التفاوض مع «حماس»، بحيث كان هناك من يقول إن فلانا أقرب إلى تفضيل حل مع «حماس»، والآخر بعيد من ذلك، بحجة أن الأول يدعم استمرار آيديولوجيا التحرير والكفاح المسلح، والثاني يعتبر ذلك مرحلة انقضت، ولا فائدة من المناداة بها إلا الانقسام والانتحاريات، شأن ما تفعله «حماس» بصواريخها التي لا تسمن ولا تغني من جوع! لقد أدت أوسلو، وأدت السلطة واختباراتها، وأدى السلام المهزوز، كل ذلك إلى تفكك وانحلال في صفوف «فتح» والتنظيمات الأخرى الأصغر، الحليفة أو المهادنة لها، حتى ما كان تاريخيا منها مثل الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية. والواقع أن الوضع بفلسطين، ما عرفت مثله منظمة تحرير من قبل، فمنظمات أو حركات التحرير إما أن تفشل وتزول، ويخلد زعماؤها في المنافي، أو تحرر أرضها، وتتحول إلى سلطة ناجحة أو فاشلة. لكن بعد التحرير وإزالة الاستعمار. وما حدث بفلسطين وعليها، لا يشبه ما حدث في أي من الأقطار الأخرى المستعمرة. إذ إن الحركة الصهيونية أنشأت بفلسطين شعبا ودولة، فهو استعمار استيطاني، استجلب له واستنفر يهود العالم في الأجيال الأربعة أو الخمسة الماضية، ولا يزال الحبل على الجرار. وما يسعى الفلسطينيون في الواقع «لتحريره» هو الجزء من فلسطين الذي كان تحت السيطرة الأردنية والمصرية حتى العام 1967. وحتى هذا الجزء ما عاد محتلا كما كان عليه الأمر حتى العام 1993، ولا صار حرا مثل الدول والأقاليم التي زال عنها الاستعمار. والأدنى إلى الحقيقة اعتبار وضع الأراضي الفلسطينية بعد أوسلو، هو وضع حكم ذاتي. وينطبق ذلك على غزة، أكثر مما ينطبق على الضفة الغربية. وهو لا ينطبق على القدس بالطبع، فهي لا تزال تحت الاحتلال الكامل. وهذا سبب آخر للصعوبات التي تبلغ حدود الاستحالة، والتي بلغتها أوضاع «فتح» وأوضاع التنظيمات الأخرى بما في ذلك حركتا «حماس» و«الجهاد الإسلامي».

فإذا كان «السلام المراوغ» قد دفع حركة «فتح» باتجاه التفكك وأفقدها الكثير من عناصر حيويتها وقوتها التمثيلية، فإن الحروب ضد إسرائيل، ثم ضد الفلسطينيين الآخرين، والدخول في تحالفات إقليمية، كل ذلك أوصل حركة «حماس»، وفي فترة أقصر بكثير، إلى الموقف والموقع نفسه. فقد انطلقت الحركة عام 1987/1988 أي بعد «فتح» بعقدين ونيف، في كفاح مسلح (تسميه جهادا) يستند إلى أن أرض فلسطين «وقف» لا يجوز التنازل أو المساومة على أي جزء منه. وما تنازلت «حماس» عن هذه الآيديولوجيا علنا، بل بالواقع وبالفعل. فبعد الاستشهاديات العنيفة التي تحيل التحرر أو التحرير إلى شكل من أشكال المستحيل العدمي (إبادة الإسرائيليين أو الفلسطينيين) اضطرت إلى ترتيبات مع إسرائيل بسبب استيلائها على غزة. وبذلك فقد صارت الأولوية لمصارعة «فتح» من أجل تولي سلطة الحكم الذاتي بالضفة كما تولتها بغزة. وما عاد متصورا أن يكون التحرير عربيا أو إسلاميا، بل مجرد صراع على السلطة بين حركتين، كانتا حركتي تحرير، وهما تتصارعان على الأرض التي تزعمان تحريرها قبل أن تتحرر. وتوضح حرب غزة الأخيرة المدى الذي بلغته التأثيرات الإقليمية على «حماس». فحتى العام 2003 ـ 2004 كان الحماسيون يشكون من عدم اهتمام إيران بهم. ثم صاروا منذ العام 2005 ـ في ظل السياسات الإيرانية الإقليمية والدولية الجديدة ـ الأداة الثانية بعد «حزب الله» مباشرة على الأرض العربية. وكما دفعت إيران باتجاه حرب تموز (يوليو) عام 2006 لإعطاء إسرائيل وأميركا درسا بشأن نفوذها وقوة أوراقها، فقد دفعت حماسا أواخر العام 2008 لحرب مع إسرائيل، رغم كارثية النتائج. و«حماس» اليوم ضائعة بين دعاوى أو طموحات استمرار الجهاد، أو التشبث بالسلطة في غزة والتقرب من الأطراف الإقليمية والدولية، رجاء أن تحل في عيون العالم محل «فتح» في المفاوضات المقبلة. ومن الواضح، على أي حال، أن علائقها بإيران، والعقائدية الموروثة، واستمتاع زعاماتها بالتسلط على موقع المعارضة، كل ذلك لا يسمح بمراجعة للأفكار بين القول والفعل، لتصبح بعيدة الشأو. وهو مصير أنقذت منه حتى الآن حركة «الجهاد الإسلامي» لأنها ليست في الواجهة، وما سعت للسلطة من خلال منافسة «فتح» في الانتخابات، ولا من خلال مكافحتها بالقوة.

أما «فتح» ففككتها وقائع السلطة وجوانبها والتكتيكات الإسرائيلية المدروسة. وأما «حماس» فكسرت منطقها، ثم شرذمت قياداتها: العقائدية المستحيلة، ورهانات الحرب، وتكفير المنافس، والتبعية للأطراف الإقليمية. وإنه لأمر يبعث على الكآبة أن يكون هذا هو حال المناضلين الفلسطينيين السابقين وليس اللاحقين، على مشارف السعي العربي والدولي من أجل حل الدولتين على أرض فلسطين.