لو كنت أدري

TT

لو كنت أدري أن وداعي لها في تلك الليلة سيكون الوداع الأخير لانتشيت برائحة عطرها أكثر، ولأبحرت في نهر عينيها أكثر وأكثر، ولأطبقت جفني على ملامح وجهها أكثر، وأكثر، وأكثر، لكنني لم أكن أظنه الوداع الأخير فانسلت من بين عيني كشعاع ضوء!

لو كنت أدري أن وداعي لها في تلك الليلة سيكون الوداع الأخير لأطلقت نواوير البوح غناء لها لتعرف أنها صارية القلب، وفنار الروح، وبوصلة الهوى. لو كنت على يقين بأنه الوداع الأخير لسألتها: كيف ترحلين، وأنت النخلة التي تساقط علينا بهاء وحبا؟! لكنني لم أكن أدري أن قافلة الموت ستمر من هناك، وتأخذك في ركابها. يا سيدتي كنت الفاكهة الأكثر نضجا في غصن الأسرة فقطفك الموت، والموت لا يقطف سوى الثمار الناضجة. كنت الموال الأكثر عذوبة فابتلعك الصمت، وفي أودية الصمت تموت المواويل.

على باب بيتك بكيت، وكان «عاصي» يغنّي:

غص الدرج نزلت دموع الباب عمرك شفت شي باب عم يبكي

يا بيتها شو غيّر الأحوال تا صرت غيبة شمس عم تغفي

عا شرفتك شو يبّس الموال عا شرفتك شو يبّس الشرفة

بالأمس مشيت خلف جنازتك في حاشية من ذكرياتي معك، استحضرتك صبية تأتي من «الكتّاب» تحمل لأخيها الصغير لعبا وحلوى، وتروي على مسامعه أخبار شجرة الحي التي تغني الصبايا تحت ظلالها:

«يا شجرة ميلي

كيف أميل

ميلى على جنبك اليمين»

فتستجيب لغنائهن، وتميل دلالا، وكيف كبرنا بعد ذلك، وصرت أنت الشجرة التي أغني لها فتحنو بظلالها عليّ، وتربت على سنوات العمر، فأغدو بين يديها طفلا يتهجى في وجهها العطوف ملامح وجه أمه.

وفي وداعك أقول: ظلال هجيرنا أنت، وشمس شتائنا كنت، وبعدك لا فيء ولا دفء.

«مهداة لروح شقيقتي التي رحلت قبل أيام».

[email protected]