أوباما: كلام طيب دائما وناقص دائما

TT

حين أراد أن يخاطب العالم الإسلامي، ذهب الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى السعودية وقال: أردت أن تبدأ جولتي من مهد الإسلام. وجريا على القاعدة نفسها، فهو إن أراد أن يتصدى لحل الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وهو هدف أساسي من أهداف جولته، فإن عليه أن يبدأ جولته من مهد القضية الفلسطينية. وحين نطال أوباما بهذه المهمة التاريخية لن نعود به إلى الحروب الصليبية، ولن نعود به إلى وعد بلفور، ولن نعود به إلى الانتداب البريطاني. سنقفز عن كل ذلك، ونطالبه بأن يعود إلى المهد التاريخي للقضية الفلسطينية المتمثل بقرار التقسيم. قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947، والذي دعا إلى إنشاء دولتين دولة لليهود ودولة للعرب، حيث تم تاريخيا إنشاء دولة إسرائيل، وسدت الطرق أمام إنشاء دولة فلسطينية.

ولا بأس أن نذكر أوباما هنا، حين يهم بالعودة إلى مهد القضية الفلسطينية، أن حكومته، حكومة الولايات المتحدة الأميركية، سارعت إلى الاعتراف بدولة إسرائيل بعد أقل من ساعة من الإعلان عنها. ولا يهمنا هنا موضوع الاعتراف هذا، بل يهمنا بدرجة أكبر، أن الاعتراف تم بدولة تجاوزت حدودها التي رسمت لها بنسبة كبيرة، شملت كل صحراء النقب وصولا إلى البحر الأحمر عند موقع (أم الرشراش) التي تسمى الآن ميناء إيلات. أي أن الحكومة الأميركية شرعنت الاحتلال الإسرائيلي واعترفت به رسميا عام 1948.

ولم تكن هذه هي السابقة الأميركية الوحيدة، بل تلت ذلك سابقة ثانية أخطر بعد حرب الخامس من حزيران/يونيو 1967، فبعد أن احتلت إسرائيل أراضي ثلاثة بلدان عربية (مصر والأردن وسوريا)، انتهى بها المطاف بتأييد إسرائيل في مسعاها للاستيلاء على جزء من هذه الأراضي، تحت ستار حاجتها لحدود آمنة ومعترف بها (هنري كيسنجر)، ثم تحت ستار استحالة إخلاء المستوطنات التي تم إنشاؤها والعودة إلى حدود العام 1967 (الرئيس جورج بوش). وهكذا فإن الحكومات الأميركية تجاوزت الأعراف والقوانين، وشجعت العدوان والاحتلال حين مارسته إسرائيل. وإذا أراد أوباما أن يكون أمينا لأفكاره بالتغيير، وأمينا لرغباته بالعودة إلى مهد القضايا، فإن من واجبه العودة إلى مهد القضية الفلسطينية من المنظور الأميركي، أي إلى قرار التقسيم. فهل هو مستعد لذلك؟

نسأل عن هذا وفي الذهن أن أوباما طالب إسرائيل بوقف الاستيطان، واعتبر وقف الاستيطان هو المدخل لمفاوضات إسرائيلية ــ فلسطينية تقود إلى حل الدولتين. وهو هنا طرح مبادئ سليمة، ثم ترك هذه المبادئ خالية من المضمون، ومعرضة للتحايل عليها جراء ذلك. ففي موضوع المستوطنات، قال أوباما وكرر وأكد ضرورة وقف الاستيطان، ولكنه لم يتحدث عن إلغاء الاستيطان، لم يتحدث عن إزالة المستوطنات التي تسميها إسرائيل (قانونية)، وهي مستوطنات تضم 85% من مستوطني الضفة الغربية. ويترافق كل تجاهل للحديث عن إزالة المستوطنات، مع قبول ضمني وعلني لاستمرار احتلال (أو استيلاء) إسرائيل على أجزاء من الأرض التي احتلت عام 1967. فهل هذا ما يريده أوباما؟ وماذا يعني شعار التغيير الذي رفعه حين يقبل بانتهاج السياسة الأميركية نفسها التي كانت سياسة معتمدة لدى كل الحكومات الأميركية التي سبقته؟ وإلى متى سيواصل أوباما، وانطلاقا من شعار الدعوة للتغيير، طرح مبادئ صحيحة، ثم تجاهل إغناءها بالمضمون العملي اللازم لها؟

نقول كل هذا بعد أن استمعنا إلى خطاب أوباما الإسلامي الجديد نوعيا يوم الخميس 4/6/2009، والذي أطلقه من جامعة القاهرة، وتحدث فيه عن القضية الفلسطينية بكلام طيب ولكنه كلام ناقص. فهل سيبقى كلامه طيبا دائما وناقصا دائما؟.

لقد تحدث الرئيس أوباما في خطابه الإسلامي، عن الإسرائيليين والفلسطينيين، وسجل تعاطفا مع التجربة اليهودية في أوروبا وعلى يد النازية، وسجل تعاطفا مع التجربة الفلسطينية على يد الاحتلال (دون أن يسميه)، وبطريقة تعبر عن عميق إحساسه بالألم الإنساني، لولا أن خللا عميقا خيم على هذه المقاربة. فالرئيس أوباما يرى المآسي متوازية، على هذا الطرف مأساة يهودية، وعلى الطرف المقابل مأساة فلسطينية، وهناك حاجة لتوفير العدالة للطرفين. ولا نستطيع هنا أن نتهم أوباما بالجهل، فهو أستاذ جامعي واسع الثقافة، ولكنه مثل كل الأوروبيين يعفي نفسه وحضارته من المسؤولية عن مأساة اليهود، ويطلب من الفلسطينيين والعرب تفهم تلك المأساة. ويتجاهل بالكامل أن المأساة الفلسطينية ليست موازية للمأساة اليهودية، إنما نبعت من الاحتلال الصهيوني لوطنهم، ومن الاحتلال الإسرائيلي بعد ذلك لما تبقى من ذلك الوطن. فهل يجوز على ضوء ذلك أن نتحدث عن ظلمين متوازيين؟

ثم إن الحديث عن الدولة الفلسطينية أمر إيجابي. ولكن لماذا تضيع التفاصيل دائما عند الحديث عن أي موضوع فلسطيني؟ ما هي هذه الدولة الفلسطينية؟ هل هي حدود دولة التقسيم؟ أم هي حدود التوسع والاحتلال الذي تم عام 1948؟ أم هي حدود حرب العام 1967؟ أم هي حدود جدار الفصل العنصري الذي تم بناؤه؟ وأيضا، ومع كل التقدير للموقف المبدئي الحازم ضد (مواصلة) الاستيطان، لماذا لا يتم الحديث عن (إزالة) الاستيطان؟ لماذا لا يتم الحديث عن لا شرعية الاستيطان في أرض محتلة، حسب القانون الدولي وحسب اتفاقية جنيف الرابعة التي رسمت قوانين الاحتلال، وما يجوز وما لا يجوز أثناء الاحتلال؟

إن خطاب أوباما خطاب إيجابي وهام، ويجب أن نقدره وأن نتعامل معه على أساس ذلك. ولكن يجب أن نسجل بعد ذلك فورا كل نواقصه على صعيد القضايا المعالجة والخاصة بالقضايا الفلسطينية والعربية والإسلامية. لا بد أن نطالب أوباما بملء النواقص والفجوات، وهي نواقص وفجوات تمس ملايين البشر، من أجل أن يتحول خطاب أوباما من خطاب نوايا طيبة إلى خطاب بناء لعلاقات تاريخية من نوع جديد.

وهنا لا بد أن نسجل أن هناك مسؤولية عربية تقع على عاتق حكامنا ودولنا جميعا من دون استثناء، في السعي لملء النواقص والفجوات. وتبدأ هذه المسؤولية من خطوة رسم وتحديد خطة عربية موحدة وتفصيلية، تتضمن كل توجهاتنا ومطالبنا، نعرضها أمام أوباما على أنها المطالب التي يضعها العالم العربي والإسلامي كشرط للتعاون معه في القضايا التي يريدها أو يطلبها. ونحن نعرف أن أوباما يريد تعاونا عربيا وإسلاميا يساعد في معالجة قضايا الحرب الأميركية الخاسرة في كل من أفغانستان وباكستان والعراق. وإذ نبدي نحن استعدادنا لهذه المساعدة، نطلب بالمقابل مساعدة أميركية في معالجة قضايانا، وأبرزها قضية فلسطين. أما إذا لم نفعل ذلك، فإن أوباما سينال مساعدتنا، ثم سيكتفي بالكلام الطيب الذي ردده على مسامعنا.

لقد أقدم أوباما حتى الآن على التراجع عن سياسة المحافظين الجدد، مع سعي لمعالجة الشرور التي زرعوها، وهذا إنجاز سيسجله له التاريخ، وهذا هو القيم والايجابي في خطابه، ولكن بعد إزالة دمار سياسة المحافظين الجدد، لا بد من إعلاء بنيان أية سياسة أميركية جديدة، وبخاصة في كل ما يتعلق بقضايانا. ونحن لم نشهد شيئا حتى الآن من إعلاء البنيان الذي نتطلع إليه.