بعد الانتخابات: دعوا لبنان يتنفس!

TT

هل سيبدأ الفريق الفائز الآن في الانتخابات بطرح مشاريعه التنموية وخططه لإعمار لبنان وإيصال الطرقات والمياه والكهرباء إلى المدن والقرى التي تبعد بضع عشرات من الكيلومترات فقط عن بيروت؟ هل سنطلع على الدراسات التي أعدوها أثناء تحضيرهم لخوض الانتخابات، حول نشر الثقافة، إذ لا تقدم اقتصاديا من دون اكتشاف مواهب جديدة تسهل الثقافة إبرازها وصقلها؟ وهل سنطلع على ما أعدوه من خطط لتوفير الخدمات الصحية والاجتماعية؟

انتهت الانتخابات وكان الخاسر بشكل عام المعارضة. كانت مراهناتها دائما أن «تلك» الأكثرية وهمية، لكن «تلك» الأكثرية أثبتت أنها حقيقية، والنتائج كشفت عن أن الأكثرية الشعبية تلتقي حتما مع الأكثرية السياسية. كما أكد اللبنانيون بأنهم سئموا عدم الاستقرار والتهديد بالاعتصامات على أساس أن الانتخابات آتية. أبرز ما أفرزته نتائج انتخابات يوم الأحد الماضي، أنها حرمت إسرائيل من فرصة ابتزاز الرئيس الأميركي باراك أوباما، من أنه صار في لبنان حكومة متطرفة، يقودها «حزب الله»، وبالتالي فهي مضطرة لرفض كل اقتراحاته التي قد توصل إلى السلام. وكان تعليق في صحيفة «يديعوت احرونوت» نشر يوم السبت الماضي، تمنى فوز «حزب الله»، لأنه بذلك يحرر إسرائيل من العبء الأخلاقي عندما «ستقصف» كل المنشآت والبنى التحتية المدنية في لبنان، على أساس أنها تدمر حكومة إرهابية. وقد كشف هذا التعليق استمرار النوايا الإسرائيلية الخبيثة ضد لبنان.

من ناحية ثانية، فإن هزيمة المعارضة بقيادة «حزب الله» في الانتخابات، هي هزيمة لإيران التي كانت تستعد لطرح نفسها لاعبا مؤثرا في السياسة اللبنانية. ومن يتابع الحملات الانتخابية الرئاسية في إيران، يلاحظ أن الإيرانيين تعلموا من اللبنانيين، فلأول مرة يواجه المرشحون للرئاسة بعضهم بعضا بحدة وصراحة وعلانية. ثم إن مناصريهم اعتمدوا الألوان المتفرقة للدلالة على من يؤيدون، كما أن الانطلاق في التصرف والملابس واعتماد الموسيقى والأغاني يميز أنصار المرشحين الليبراليين عن أنصار المحافظين. وعسى أن تصل العدوى اللبنانية إلى يوم الانتخابات، فيخلع الإيرانيون التطرف، ويتطلعون إلى المستقبل المزدهر اقتصاديا، والذي تلونه الحرية والأمل. أيضا، أفقدت نتائج الانتخابات في لبنان سورية ورقة لبنان، ذلك أن هزيمة حلفائها أظهرت ضعف قبضتها. وكانت تطورات كثيرة أدت إلى عدم تدخل سورية بطريقة مباشرة في الانتخابات (هي اعتمدت على «حزب الله» و«أمل» وكذلك على بعض الشخصيات العسكرية والسياسية للقيام بالمهمة)، وأبرز تلك التطورات القلق الذي ساورها عندما لم يأت الرئيس أوباما على ذكر أي إشارة إلى سورية في الخطاب الذي ألقاه في جامعة القاهرة أخيرا. ثم إن الإدارة الأميركية الجديدة كررت على لسان كبار مسؤوليها، ومن أمام القصر الجمهوري اللبناني (جو بايدن نائب الرئيس، وهيلاري كلينتون وزيرة الخارجية)، أن استقلال لبنان وسيادته وحريته مسألة غير مسموح لأحد المس بها. كما أن الإدارة لم ترسل بعد سفيرا لها إلى دمشق، وإن كان ميتشل سيزورها في جولته الجديدة.

ومع صدور النتائج التي حسمت فوز فريق «14 آذار»، سيكون العبء على سورية أكبر، لذلك أسرعت، لإظهار حسن النوايا على أنها جزء من الحل وليست جزءا من المشكلة، وسمحت لخالد مشعل الزعيم الأول لحركة «حماس»، بالسفر يوم الاثنين إلى القاهرة للقاء رئيس الاستخبارات المصرية اللواء عمر سليمان المخول ترميم العلاقات الفلسطينية.

بالنسبة إلى لبنان، أظهرت نتائج الانتخابات ما كان معروفا، وهو الاصطفاف المذهبي، خصوصا الانقسام السني ـ الشيعي، وإن كان لكل طرف زعيمه الأوحد، وأظهرت انقساما مسيحيا. وإذا كان المسلمون من سنّة وشيعة ودروز اقترعوا للوائح كاملة تدليلا على الطاعة للزعيم، فإن الشارع المسيحي فعل العكس وعن قناعة (ما ظهر في نتائج المتن الشمالي، حيث فاز التيار العوني بخمسة مقاعد، ولائحة ميشال المر بمقعدين)، كما أن 58% من المسيحيين رفضوا أن يفرض العماد ميشال عون عليهم حليفه «حزب الله».

هذه هي الانتخابات الثانية التي يرفض فيها المسيحيون طروحات «حزب الله»، ففي انتخابات 2005 وبعد التحالف الرباعي الذي جمع «حزب الله» و«أمل» مع «تيار المستقبل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» و«القوات اللبنانية»، صبوا أصواتهم في صناديق «التيار الوطني»، استفظعوا أن يستبدلهم «المستقبل» و«الاشتراكي» بتحالف مع «حزب الله» وهم كانوا أسس أعمدة «14 آذار». الأحد الماضي رفضوا طروحات «حزب الله» من جديد. هم ليسوا ضد التحرير، لكن حرب 2006، دمرت ولم تحرر مزارع شبعا، أو تلال كفر شوبا. لقد جرب المسيحيون السلاح، وعرفوا نتائج استعماله من دمار وتهجير وهجرة وفقر، ولم يعودوا في وارد اللجوء إليه من جديد، أو تحمل أن يُفرض عليهم، لذلك كانت صناديق الاقتراع وسيلتهم إلى التعبير عن الرفض لسلاح «حزب الله» وما قد يجره على لبنان، كما رفضوا في الوقت نفسه علاقة غير محددة مع سورية. ثم إنهم تعبوا من تقسيم اللبنانيين، وأيقنوا أن وحدة الأطراف اللبنانية حماية لهم.

العماد عون لا يزال على رأس أكبر كتلة مسيحية، لكن عليه أن يتوقف طويلا للتمعن بأسباب الرفض المسيحي. فقضاء البترون مسيحي صرف، وفيه وللمرة الثانية لحقت الهزيمة بمرشحه الوزير جبران باسيل (صهره).

بيروت الأولى، حيث يتعايش المسيحيون الأرثوذكس مع المسلمين السنة، رُفضت لائحة العماد، فما بين أرثوذكس وسنة بيروت تاريخ من العيش المشترك بكل تفاصيله الاجتماعية والتجارية والاقتصادية، إذ كان سنة بيروت يقضون الصيف في الأشرفية. وكانوا في طوابق المباني العالية في الاشرفية شاهدوا بأم العين والخوف ما حدث يوم السابع من مايو (أيار) عام 2007 ولم ينسوه. وأُسقطت لائحة حليف العماد عون في زحلة الوزير الياس سكاف، والسبب أصوات السنة، وعدم المشاركة الملحوظة من قبل الكاثوليك في الاقتراع. فزحلة، كما هو معروف، مدينة نهر البردوني وكأس العرق والكبة النية، والرقص والغناء.

السنة لم يعطوا عون أي صوت من أصواتهم، هو فاز في مناطق معينة بأصوات الشيعة، (بعبدا وجبيل)، لكن أصوات مسيحيي الضاحية في قضاء بعبدا الذين هُجروا من بيوتهم، صبّت لصالح لائحة «14 آذار» التي تضم شيعة مناوئين لـ«حزب الله» مثل الوزير والنائب السابق باسم السبع.

هذا يكشف أن العماد عون فشل في توحيد المسيحيين، كما أن تفاهمه مع «حزب الله» ما كان يجب ان يكون على حساب علاقته بالسنّة. ثم إن السيد حسن نصر الله بخطبه الأخيرة أبعد السنة والمسيحيين أكثر. كانت كلمة «معركة» تتكرر في كل مقاطع الخطب، ثم إن وصفه ليوم السابع من أيار بـ«المجيد» و«نحن لا نريدكم أن تنسوا»، أعاد إلى الأذهان ذكرى ذلك اليوم المشؤوم وجدد الخوف مما قد يأتي في المستقبل، كذلك تأكيده، وكأن فريقه فاز، بأن لبنان سيسلح جيشه النظامي من إيران أبعد المسيحيين والسنة عن كل حلفاء «حزب الله»، وقول نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم «إننا سنواصل تسلحنا على الملأ، وأمام أعين العالم كله» جعل أغلبية اللبنانيين يعملون كل ما باستطاعتهم، وعبر كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة من أجل إنقاذ لبنان.

الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، ربما يشعر بالحيرة، فهو راهن بطريقة غير مباشرة، على فوز المعارضة، وبدأ يحاول أن ينأى بنفسه عن «14 آذار» ويتقرب من «حزب الله» ومن نبيه بري الرئيس الدائم للمجلس النيابي، على أساس أنهما الطريق المستقبلي الجديد له، وكان التخطيط بأن يصبح هو وبري وبعض من «14 آذار» وبعض المستقلين نواة الكتلة المستقلة التي ستنفتح على سورية. كذلك الأمر مع نجيب ميقاتي رئيس الوزراء السابق، الذي كان يطمح، لو فازت المعارضة، بأنه، وهو المستقل، سيكون الخيار الأمثل لتولي منصب رئاسة الحكومة. عندما كرر السيد نصر الله خطبه النارية من «يوم مجيد»، إلى التسلح من إيران، ظن بعض السياسيين أنه يعمل لعدم فوز المعارضة في الانتخابات، فيما أكد آخرون العكس، وأن النقاش داخل اجتماعات قيادة الحزب تدور حول أخطار الفوز بفارق كبير جدا، وأن من الأفضل تحقيق فوز بفارق بسيط لا يتجاوز المقعدين، بحيث يضمن الحزب مشاركة الآخرين، لأن همه الأول تأمين الحماية السياسية لسلاحه، ثم إنه وفي حال تحقيق الفوز الكاسح، قد يلقى مصير حركة «حماس»، ويُزج به في عزلة سياسية واقتصادية، رغم أنه تدارس مسألة أن سورية على حدوده وليست مصر كما الحال مع «حماس».

لكن، كل هذه النقاشات لم تصل إلى مسمع الناخب اللبناني العادي، وظهر بعد الانتخابات، والرفض لسلاح «حزب الله»، القلق الذي ساور قيادييه، إذ سارع النائب محمد رعد إلى ما يُشبه التهديد والتحذير من طرح مسألة المقاومة وسلاحها للحوار. هو بذلك يفكر بـ«الثلث المعطل» في الحكومة المقبلة، لأن التفويض الذي أعطاه اللبنانيون لفريق «14 آذار» يخوله رفض تلك المعادلة التي تعيد «السلطة» عمليا إلى الحزب، ويبقى لبنان حالة ميؤوسا منها.

على الفريق الفائز أن يتمسك بمبدأ الثلثين الذي كان معمولا به دائما لتمرير القوانين والمشاريع لإعادة إحياء لبنان. لقد أصبح سلاح «حزب الله» عبئا عليه، والعبء مع الأيام يصبح أثقل من حامله، والحوار الهادئ والمقنع والمتواصل في إعادة بناء الدولة القوية بجيشها النظامي، قد يجد حلا لهذا العبء وكذلك العبء الأخطر الآخر، وهو السلاح في أيدي الفلسطينيين داخل وخارج المخيمات.

دعوا لبنان يتنفس.