أوباما عرض الخيارات المتاحة وعلى العرب التقاط اللحظة التاريخية

TT

بعد خطاب جامعة القاهرة، الذي أصر بعض العرب على سماعه بآذانهم وليس بقلوبهم وعقولهم، أعرب الرئيس الأميركي باراك أوباما في تصريحين متلاحقين، خلال زيارته لبرلين وباريس، عن أمله في تحقيق تقدم جاد في عملية السلام في الشرق الأوسط خلال هذه السنة الجارية، ودعا الفلسطينيين والإسرائيليين إلى ضرورة استئناف المفاوضات المتوقعة وشدد على أن يكون هذا الاستئناف على أساس حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية المنشودة إلى جانب الدولة الإسرائيلية.

وفي الاتجاه ذاته وبما يعزز القناعة بالجدية الأميركية فقد بادرت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون إلى دحض الإدعاءات الإسرائيلية بالنفي المطلق لحقيقة أن إدارة جورج بوش (الابن) قد أعطت موافقة رسمية للإسرائيليين لتوسيع المستوطنات القائمة وتسمينها كما بادرت إلى التأكيد على أنه لا تراجع عن المواقف التي كان أعلنها الرئيس أوباما وشدد فيها على ضرورة وقف الاستيطان بكل صوره وأشكاله.

وحقيقة، ورغم نعيق غربان الشؤم الذين تعشش أوهام المؤامرات في عقولهم وأذهانهم، إن أي متابع لمواقف الرئيس أوباما تجاه القضية الفلسطينية والصراع في الشرق الأوسط إنْ خلال معركة الانتخابات الرئاسية وإنْ بعد انتقاله إلى البيت الأبيض وإنْ في الأيام الأخيرة، لا بد من أن تتأكد لديه القناعة بأن هناك تحولا فعليا في «استراتيجية» الولايات المتحدة تجاه العرب والمسلمين وتجاه قضايا هذه المنطقة الملحة، ولهذا فإنه عندما يقول الرئيس الأميركي خلال مؤتمر صحافي مع المستشارة الألمانية ميركل في أثناء زيارته إلى ألمانيا: «إن اللحظة قد أتت لكي نحل الأزمة في الشرق الأوسط وإننا سنعمل خلال الأسابيع المقبلة على تحقيق النقاط المقترحة لحل هذه الأزمة على قاعدة الدولتين».

منذ البداية كان يجب إدراك أن مجيء باراك أوباما إلى موقع رئيس الولايات المتحدة لم يكن لا مجرد صدفة ولا مجرد ضربة حظ في لحظة انفتحت فيها أبواب السماء، بل إنه كان نتيجة قناعة «الاستراتيجيين» الأميركيين، وبخاصة في الحزب الديموقراطي بأنه إذا أرادت أميركا أن تبقى تقبض بناصية العالم في القرن الحادي والعشرين فإنه عليها أن تتصالح مع الإسلام الذي يتشكل سياسيا من سبع وخمسين دولة تحتل أهم المواقع الجغرافية في العالم وأنه عليها أن تبادر وقبل فوات الأوان إلى إعادة النظر بمواقفها من المسلمين الذين يتجاوز عددهم مليار نسمة.

ولذلك فإنه من أجل هذه المصالحة التاريخية التي غدت تشكّل العنوان الرئيسي للاستراتيجية الأميركية في القرن الحادي والعشرين فإنه لا بد من أن يكون الرئيس الأمريكي الذي سيتحمل عبء هذا التحول قريبا من المسلمين وقريبة لغته الوجدانية من لغتهم ويشبه لون بشرته ألوان بشرتهم وتلتقي خلفيته الثقافية مع خلفيتهم ويتناغم ما في داخله مع ما في دواخلهم وإنه لا بد من أن يبدأ بالإعلان عن نهاية الحرب مع الإسلام وبالسعي الجاد لإنهاء أزمة الشرق الأوسط وحل القضية الفلسطينية التي بدون حلها وفقا لرؤية قيام دولة مستقلة للفلسطينيين إلى جانب الدولة الإسرائيلية فإنه لن تكون هناك مثل هذه المصالحة التاريخية المنشودة وإنه ستبقى هذه المنطقة الحساسة جدا والهامة جدا بالنسبة إلى مصالح الولايات المتحدة الحيوية بين تشدد اليمين الإسرائيلي المتطرف وتنامي العنف وازدياد سطوة المنظمات والتنظيمات الإرهابية.

وهذا معناه أن ما قاله أوباما في خطاب جامعة القاهرة وما كان قاله قبل ذلك وبعد ذلك بالنسبة إلى القضية الفلسطينية والوضع في الشرق الأوسط ليس مجرد كلام عابر لدغدغة العواطف والتلاعب بها من أجل تمرير موقف محدد في مرحلة انتقالية، بل هو تحول تاريخي في «استراتيجية» الولايات المتحدة تجاه هذه المنطقة وصراعها المزمن، ولهذا فإنه على عرب الأفعال وليس عرب مجرد الأقوال والشعارات أن يتحركوا بسرعة لالتقاط هذه اللحظة التاريخية ويعطوا للرئيس الأميركي ما يشجعه على أن يُتبِع هذه الخطوة الهامة التي خطاها بخطوة تجعله قادرا على تحقيق ما وعد به، وهو إنجاز تقدم فعلي في عملية السلام قبل نهاية هذا العام وعلى أساس حل الدولتين أي قيام دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب الدولة الإسرائيلية.

إنه على العرب المعنيين وغير المستنكفين والذين أيديهم في النار وليس في الماء وفي مقدمتهم الفلسطينيون، الذين ليسوا عقولهم وقلوبهم عند الولي الفقيه في طهران، أن يعرفوا أن هذه المعادلة التي يطرحها ويعرضها باراك أوباما تشكل أفضل الخيارات المتاحة وأنهم إن لم يتحركوا بسرعة لالتقاط هذه اللحظة التاريخية فإن هذا الرئيس الأميركي، الذي لن يتكرر ولن تجود بمثله الأيام سواء كان مجيئه صدفة أم مخططا وفي إطار الاستراتيجية الأميركية الشمولية الجديدة، سيصاب بالإحباط وقد يدفعه اليأس إلى الانكفاء والعودة للسير على خطى أسلافه وآخرهم جورج بوش (الابن) سيئ الصيت والسمعة.

هناك ثلاث دول تشكل مثلث الاعتدال هي المعنية أكثر من غيرها بالمسارعة لالتقاط هذه اللحظة التاريخية والبنّاءة وهي المملكة الأردنية الهاشمية التي أخذت دور أن يكون استقبال عاهلها عبد الله الثاني في البيت الأبيض كأول استقبال لقائد عربي في عهد هذه الإدارة وباسم العرب كلهم، والسعودية التي ولج الرئيس الأميركي إلى هذه الزيارة التاريخية من بوابتها، ومصر التي كان لها شرف أن يكون هذا الخطاب التاريخي الذي وجهه أوباما إلى العرب والمسلمين من فوق منبر جامعة القاهرة. إن هذه الدول الثلاث معنية قبل غيرها وأكثر من غيرها، ما دام أن الولايات المتحدة وهي تقوم بهذه الانعطافة الاستراتيجية الهامة تراهن عليها وتعتبرها مثلث الاعتدال والواقعية، بأن تبلور وبسرعة موقفا عمليا وإيجابيا تردّ به على هذه الخطوة الأميركية بخطوة مماثلة، وبحيث يستطيع الرئيس باراك أوباما ترجمة كل ما قاله ترجمة فعلية ويحقق قبل نهاية هذا العام إنجازا ملموسا على طريق إنهاء أزمة الشرق الأوسط وحل قضية فلسطين على أساس قيام الدولة الفلسطينية المستقلة المنشودة إلى جانب الدولة الإسرائيلية. إنه على هذه الدول الثلاث أن تتحرك بسرعة وتطرق الحديد وهو حامٍ وإنه عليها ألاّ تترك الميدان للمزايدين الذين تعاملوا مع خطاب أوباما من فوق منبر جامعة القاهرة وكأن المطلوب أن يكون رئيس الولايات المتحدة الأميركية نسخة عن محمود أحمدي نجاد ويعلن قبل أن ينطلق في هذه المهمة التاريخية أن اليهود شذاذ آفاق وأن «الهولوكوست» مجرد كذبة صهيونية وأن إسرائيل يجب أن تزول وأن الدولة الفلسطينية المنشودة يجب أن تقوم على ما بين نهر الأردن في الشرق والبحر الأبيض المتوسط في الغرب مع مياه إقليمية تصل إلى شواطئ جزيرة قبرص. إن مما لا شك فيه أن هذه الدول الثلاث تعرف أن هناك عربا ومعهم بعض القوى والأحزاب وبعض التنظيمات والمنظمات يريدون ألاّ تخرج الولايات المتحدة من دائرة الانحياز الفجّ والأعمى لليمين الأكثر تطرفا في إسرائيل، وذلك حرصا منهم على ألاّ يفقدوا مبرر وجودهم ويفقدوا مواقعهم السياسية، ولذلك فإنه على هذه الدول الثلاث، ومعها من يقبل من العرب بالسير على هذا الطريق، أن تتحمل هذه المسؤولية التاريخية وأن تبادر، لمعرفتها بأن ما طرحه وعرضه وأعلنه باراك أوباما هو أفضل الخيارات المتاحة، إلى وضع خطة مرنة جوهرها مبادرة السلام العربية لإسناد الرئيس الأميركي ومساعدته لإنجاز هذا التحول الذي إن هو أُنجز وأخذ كل أبعاده الحقيقية فإن هذا القرن الحادي والعشرين سيكون قرنا عربيا في هذه المنطقة.

لا يجوز أن يُقال لـ«باراك أوباما» اذهب أنت وربك فقاتلا إننا ها هنا قاعدون فهذا التحول التاريخي الهام يستحق الغوص في الأوحال حتى الرُّكَب من أجل تحقيقه ويستحق الذهاب إلى نهاية النفق المظلم، والمؤكد أنه إن لم يلتقط العرب هذه اللحظة التاريخية الهامة فإن هذه المنطقة ستنتهي إلى أيدي أصحاب المشاريع الإقليمية فالسياسة مثل الطبيعة تكره الفراغ، والمؤكد أنه إذا واجهت الدول العربية هذا التحرك الأميركي الجاد بالاستنكاف والابتعاد وبالحرص على العذرية السياسية فإن إيران هي التي ستملأ الفراغ وتحقق كل تطلعاتها نحو هذه المنطقة التي هي منطقة عربية.