إيران: النظام مُصاب بهشاشة العظام

TT

لا شك أن «عرب» إيران ناموا على حرير التجديد التلقائي لنجاد، وأفاقوا على الاحتجاج الشعبي الهائل، على التلاعب بنتائج الاقتراع. الإحراج كبير. شيء لا يحدث مثيل له في غدير عربي راكد، لم يُلق به حجر يعكر صفو الانتخابات الرئاسية والنيابية التي تجري في عالمه.

ارتسم أمام «عرب» إيران خط فاصل بوضوح. الدنيا تغيرت بين عشية وضحاها. تبين أن النظام الثيوقراطي (حكم رجال الدين) الذي يخترق العرب. يرسم لهم سياسات. يفرض عليهم مواقف. يدعم. ينفق. يمول أنظمة. يشترى رجالا وأحزابا وكتابا وصحافة وصحافيين، هذا النظام مصاب بهشاشة العظام. لم يعد بإمكان هؤلاء «العرب» التباهي بالولاء له. فهو كمزهرية أصيبت باكرا بتعب المادة والنسيج، ومعرضة للانكسار وللانفراط في أي وقت.

ها هي سورية، بعد الانسحاب العسكري من لبنان، تعود إلى لعب أوراقها داخل وخارج السلة الإيرانية. تراهن على تركيا في الوصل والاتصال مع إسرائيل. تنادي بالسلام المرفوض من طهران. تستقبل كارتر ورسل أوباما. تنتظر الحوار مع أميركا. تعاود الاتصال بالسعودية. تستمع إلى عباس. تشحن شيخ حماس المقيم في دمشق إلى القاهرة، لمواصلة التشاور حول الوحدة الوطنية، على الرغم من علاقته الإيرانية. مشايخ الإمارة الحماسية في غزة كفوا عن إطلاق صواريخ التنك الإيرانية. يتحدثون لأول مرة عن الديمقراطية؟ يلتقون «القديس» كارتر رسول أوباما، و«مولانا» سولانا مبعوث أوروبا. ينتظرون اعترافا وشيكا بـ955 مليون دولار، وعد به أوباما غزة، إذا قبل مشايخها بالدولة الفلسطينية، وكفوا عن مسايرة نجاد في التهديد بمحو إسرائيل من الخريطة.

كيف يقرأ مشايخ «حزب الله» وحلفاؤهم علمانيو «أمل» في لبنان الزلزال الإيراني، قبل 24 ساعة، كان حسن الحزب يحذر العرب واللبنانيين من مس «معصومية» الفقيه خامنه ئي، ثم يتطاول فيوبخ البطريرك صفير، على تعريبه الموارنة عشية الانتخابات النيابية.

من الواضح أن معلومات الحزب من طهران، حتى قبل الزلزال الانتخابي، عن الانقسام الخطير داخل معسكر النظام الإيراني، هي التي دفعت الحزب إلى ابتلاع هزيمته في انتخابات 7 يونيو اللبنانية، وهى التي استعجلت حليفه نبيه بري إلى تهنئة تيار 14 آذار على نصره، طمعا في ضمان التصويت له، تجديدا لرئاسة مجلس النواب الذي أغلقه.

أبقى ملتزما بحدود الواقع. لا أتوقع، حتى ولو سقط نظام الملالي في إيران، قبول الشيعة اللبنانية بالتخلي عن الأسلحة الإيرانية والسورية، أو استيعابها في مشروع «الاستراتيجية الدفاعية» أي بالتنسيق بين سلاح الحزب، وسلاح الجيش اللبناني، كما يدعو ضمنا الرئيس ميشال سليمان.

السبب أن الحزب الديني لم ينسجم، بعد، مع سلمية اللعبة الديمقراطية. هو بعد تحييد القوات الدولية له في المواجهة مع إسرائيل، بات يوجه سلاحه لتهديد الطوائف المسيحية والسنية. السبب الآخر هو اعتقاد الحزب بأن الجيش اللبناني لا يمتلك التصميم والإرادة، للدخول في مواجهة غير متكافئة مع إسرائيل. بمعنى آخر، فالحزب يؤمن بأن الجيش اللبناني، منذ استقلال لبنان، كان جهازا رديفا لقوى الأمن الداخلي، في حفظ السلم المدني، وليس جاهزا لخوض حروب دفاعية أو خارجية.

في ضآلة المعلومات العربية عن الداخل الإيراني، فهيكل على حق في السخرية من أجهزة المخابرات العربية. لا أدري ما إذا كان الصحافي الكبير يسحب هذا الرأي أيضا عن المخابرات الناصرية. فؤجئ النظام العربي بهشاشة عظام خامنه ئي ونجاد، فيما كانت البكائيات العربية تشكو من أن الهلال الشيعي بات قمرا ساطعا في ليالي المشرق والخليج، في حين كان عمرو موسى يرسل برقية تهنئة مبكرة إلى نجاد، وكأن إيران مرت من تحت الطاولة، وأصبحت عضوا في الجامعة العربية.

هناك كليات جامعية تُدرس الفارسية والأدب الفارسي. لكن ليست هناك مراكز بحوث ودراسات عربية عن إيران، تاريخا وسياسة وأشخاصا. المخابرات العربية منهكة في مراقبة مجتمعاتها. لا تعرف ما يجري عند جيرانها. لو أن المعلومات والدراسات متوفرة عن إيران، لما وقعنا في هذه المبالغة، في توصيف الزلزال الإيراني.

بناء التحليل السياسي على العاطفة هو السبب في القراءة الخاطئة للسياسات. هناك قراءة عربية «ميلودرامية» للحدث الإيراني، تأثرا وتقليدا للإعلام الغربي في خصومته الشديدة مع إيران خصوصا، وعنصريته عموما مع العرب والمسلمين.

أوباما على حق في تصوره أن إيران اليوم في المنطقة الرمادية. فهو يتريث في اتخاذ موقف والمبادرة إلى الهجوم على النظام الإيراني، كما تلح عليه دوائر الحزبين الديمقراطي والجمهوري.

بدأت حملة مبكرة على أوباما، لتصويره رئيسا مثقفا، مترددا، منظرا أكثر مما هو سياسي «واقعي».

أدعو إلى التزام التهدئة والموضوعية في التحليل والتوصيف. نعم، إيران بلد الزلازل السياسية. إيران شهدت انقلابات، وتداولا دمويا للسلطة منذ أكثر من قرن. ما حدث الآن يعبر عن الانقسام داخل مرجعية النظام الحاكم: رفسنجانى ضد خامنه ئي. موسوي ضد نجاد. النظام والشارع الإصلاحي كلاهما يتحسس عضلاته قبل «المسكة» الأخيرة على الحلبة. كلاهما يدرك هشاشة عظام الآخر. موسوي قال كلمته الأخيرة. أدان «كذب وخداع» نجاد. انتقد الفقيه خامنه ئي «المعصوم». خامنه ئي لم يقل كلمته الأخيرة.

وجه إنذارا. لم يطلق بعد ميليشياته وقواه الأمنية ضد شارع ملتهب.

الجولة الثانية سوف تنتهي، إما بعودة موسوي إلى حظيرة النظام الذي خرج عنه، أو بإخفاق قوى خامنه ئي في تأديب الإصلاحيين. الغموض راجع إلى التداخل والتبديل السريع للاتجاهات والمواقف. كان موسوي سلطويا متشددا. بات اليوم إصلاحيا متمردا. خامنه ئي كان ليبراليا في الاقتصاد. بات متزمتا في السياسة، مسايرا لـ «زلمته» نجاد. فأصر على التجديد له، مخالفا القراءة الحقيقية للأرقام. عندما يخفق خامنه ئي في قمع الإصلاحيين، وهم أصلا لهم أكثر من اتجاه، عندها يمكن القول إن النظام في أزمة حقيقية: انهيار أو حرب أهلية. في حياتي الصحافية، قابلت وسمعت ساسة، وهم يتكهنون بسقوط هذا أو ذاك خلال أيام أو أسابيع. اختفى هؤلاء الساسة نتيجة المبالغة في قراءة الواقع، والتقدير غير الحقيقي للوضع الميداني. وظل أمثال «هذا» أو «ذاك» يحكمون أجيالا، ويورثون أولادا.

المشكلة في إيران أن النظام الديني أنتج، بعد ثلاثين سنة، جيلا شبابيا رافضا له ولتجربة تسييس الدين. نحن العرب مررنا بتجربة مماثلة. نظام البعث في العراق وسورية أنتج، بعد أربعين سنة، جيلا رافضا للحزب. كارها التنظير باللغة الإنشائية الخشبية.

ليس خامنه ئي وحده يعاني من الكساح وهشاشة العظام. نشهد اليوم تراجع الإسلام الحزبي والجهادي، في باكستان وأفغانستان، وآسيا الوسطى، والبوسنة، وفلسطين ومصر والمغرب. باستثناء تركيا. هناك نجح النظام المتأسلم في مصالحة الدين مع قيم الحاضر، وفى مقدمتها الديمقراطية، من دون مس حرية الاقتراع.