دروس من انتخابات المغرب

TT

تركز الانتباه لدى نشر نتائج الانتخابات البلدية والقروية التي أجريت بالمغرب يوم 12 يونيو 2009، على إبراز الرقم المتعلق بالحزب الذي تصدر لائحة الفائزين، حيث تأكدت العودة إلى قاعدة جارية المفعول في «العمل المغربي»، تقتضي نجاح الحزب الذي وقع تأهيله ليقود الأغلبية. وكما وقع سابقا، في غالب الأحيان، فإن الحزب الذي وقع إعداده لهذا الدور حاليا، قد أنشئ منذ وقت قريب، بل لم يستكمل بعد تشكيل هياكله.

وهذا ليس مجرد فلكلور، بل إنه من مستلزمات قاعدة استقرت طيلة عقود، تقتضي أن تستقطب في كل فترة نخبة تتشكل منها قيادات يقع تأهيلها للخوض في الشأن العام.

وكان ذلك يتم دائما بغرض عدم ترك مجال الشأن العام للأحزاب التي أفرزها المجتمع بتلقائية. وهذا ما حدث بشكل منتظم منذ 1963، حينما أنشئ تنظيم عهد إليه بمعارضة أحزاب المعارضة. وهذا ما تم تطبيقه إلى أن قامت الحكومة التي شاركت فيها الكتلة الديموقراطية في 1998. وكان التوافق الذي ساد المشهد السياسي في البلاد، كنتيجة لهندسة سياسية أشرف عليها المرحوم الحسن الثاني، قد أوحى بأنه لم تعد هناك حاجة لتكون للإدارة أحزاب تقوم بدور معارضة المعارضة. باعتبار أن النظام قوي والمجتمع قوي وكلاهما سند للآخر. وكانت الممارسة السياسية في المغرب قد أدت قبل ذلك إلى تفتيت الخريطة الحزبية بكيفية مفرطة، حتى أنه شارك في الانتخابات الأخيرة ثلاثون حزبا. ولاحظ وزير الداخلية وهو يزف الأرقام التي أسفر عنها الاقتراع أن ثمانية من بين الأحزاب المتبارية تمثل 89.3 % من الناخبين. أي أنه بغض النظر عن البلقنة، هناك أحزاب لها صدى حقيقي في المجتمع.

وهذا التوجه إلى الإقبال على تنظيمات لها اعتبار، يمثل تقدما بالنسبة لما حصل في آخر انتخابات جماعية جرت في سنة 2003. ذلك أنه في الانتخابات المحلية التي أجريت حينئذ كان هناك 11 حزبا وصلوا إلى استقطاب 82.30 % من الأصوات، مما يحسب في خانة التقليص النسبي للبلقنة التي تسم الخريطة السياسية المغربية.

ومن بين الأحزاب الثمانية المستقطبة لأكبر عدد من الناخبين هناك أربعة أحزاب من النوع الذي كان يتم إنشاؤه من لدن الإدارة لمعارضة المعارضة، في «سنوات الرصاص»، وأربعة أحزاب من النوع الذي أفرزه الشارع السياسي، بكيفية تلقائية.

وكان يظن أن انتخابات 2002 التي وقع التوافق على أنها كانت نظيفة من تدخل الإدارة، قد وضعت حدا لمفهوم «الحزب الإداري» وذلك باعتبار أن كل الأحزاب، بعد كف وزارة الداخلية عن التدخل في صنع النتائج، أصبحت متساوية في المشروعية، إذ كلها تدين بوجودها لصناديق الاقتراع.

ولكن بعد العودة إلى ظهور حزب مبرمج منذ نشأته لنيل الأغلبية، أصبح لابد من شرح أسباب النزول. فحزب من هذا القبيل مكلف بمهمة مزدوجة تتمثل في تفتيت الخريطة وفي إضعاف حصة الأحزاب المنبثقة من الحركة الوطنية.

فقد كان الوصول إلى ذلك الغرض يمثل انشغالا مستمرا لأجهزة القرار، منذ أول انتخابات بلدية وقروية أجريت في المغرب يوم 29 مايو 1960، حينما أحرز حزب الاستقلال بشقيه 78 % من الأصوات. ومنذ ذلك الوقت كان يدبر بكيفية مصطنعة تقليص الوزن التمثيلي لأحزاب الحركة الوطنية في حظيرة المؤسسات، وصولا إلى الحيلولة دون وصولها إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع.

إلا أنه وقع عبر مختلف الاستشارات الانتخابية التي أجريت في المغرب، أن حصلت الأحزاب التي تفرعت عن الحركة الوطنية، على حصة ثابتة ووازنة في الخريطة السياسية المغربية، وذلك بكيفية مستمرة.

وفي الانتخابات الأخيرة حصلت هذه الأحزاب، مضافا إليها حزب العدالة والتنمية الذي أصبح يحظى بنصيبه من المضايقة من لدن المهتمين بصنع الخريطة، على ما لا يقل عن 46.4 %.

وبالرجوع إلى انتخابات 2003 وهي الجديرة بأن تقارن بتجربة 2009 نجد أن تلك الفئة من الأحزاب كانت تمثل في تلك التجربة 49.58 % ، وقد أدخلت في تلك الزمرة حزبين اختفيا الآن من الحلبة وهما حزب الشورى والاستقلال (0.63%)، والحزب الاشتراكي الديموقراطي (2.22 %) الذي اندمج في الاتحاد الاشتراكي. ولا تعبر هذه الأرقام عن التركيب الحقيقي للخريطة السياسية.

وهناك معطى شغل حيزا كبيرا من الاهتمام قبل وبعد النتائج، وهو عدد المشاركين في الاقتراع. وقد ذكرت المصادر الرسمية أن هؤلاء بلغوا 52.4 % في حين أن عددهم في سنة 2003 كان 54.16%.

فهناك انخفاض في عدد الناخبين، وأسباب العزوف ما زالت قائمة، إن لم تكن قد زادت. ويجب النظر إلى هذا الجانب كما صنعت جريدة «الأحداث المغربية» باعتبار أن عدد البالغين سن التصويت يفوق 20 مليون مغربي لم يسجل منهم في اللوائح إلا 13.360 مليون ناخب.

ولم يكف أصحاب القرار عن القول إن العزوف المتزايد عن الانتخابات في المغرب، لا يقع بسبب عدم الاقتناع بالسياسة، بقدر ما هو راجع إلى الضجر من الأحزاب. وهذا تحامل فحينما تذكر الأحزاب في هذا السياق، لا تقصد إلا الأحزاب المنبثقة من الحركة الوطنية أو ما في حكمها.

ويتعلق الأمر بتسعة أحزاب دخلت التجربة الأخيرة مشتتة الصفوف. ويتصدر تلك المجموعة كل من حزب الاستقلال بـ16.6 % من الأصوات، والاتحاد الاشتراكي بـ 10.8 % والعدالة والتنمية بـ 7.5%. ونشرت جريدة «التجديد» بيانات تفيد أن هذه الأحزاب بالذات سجلت حضورا نوعيا في المواقع الحضرية على خلاف الحزب الفائز بالصدارة، الذي ربح في المراكز القروية الصغيرة.

ويناهز عدد الناخبين الذين عبروا عن انتمائهم للأحزاب المنبثقة من الحركة الوطنية زائد العدالة والتنمية، نصف من هبوا إلى صناديق الاقتراع في 12/6. وهو نفس العدد تقريبا الذي كان منذ ست سنوات.

وهذه الكتلة الناخبة تبددت شيئا فشيئا طيلة العشرية الحالية، لأسباب ذاتية وأخرى مدبرة من خارجها. وهذا وذاك أدى إلى بلبلة الكتلة الديموقراطية في فترة حكومة التناوب، ثم تشتيتها في 2002 وأخيرا تعطيلها في 2003. فمن المعلوم أن حزبي الاستقلال والاتحاد كانا وقتئذ قادرين على تشكيل مكاتب يسودها تحالف تقوده الكتلة في كل من البيضاء والرباط ومراكش وطنجة وفاس وسلا. ولكن كل تلك المدن آلت رئاستها إلى أحزاب من غير الكتلة، باستثناء فاس، بسبب تعثر التنسيق بين الحزبين المذكورين. وكما بينت دراسة كاشفة غداة انتخابات 12 سبتمبر 2003 (ميلود بلقاضي، «الصباح» 20 سبتمبر 2003) فقد كان للحزبين 26 مقعدا في مراكش. ولكن كلنا نعلم أنه فاز بالرئاسة حزب له 5 مقاعد. وفي الدار البيضاء طال أمد الشقاق بين الحزبين المذكورين وآلت الرئاسة لحزب له 11 مقعدا في مقابل 36 للحزبين.

وحدث ذلك بسبب تدخلات واضحة في عين المكان، وبالتضريب فيما بين الحزبين، وهي تدخلات كان هدفها هو الخروج بالنتيجة التي وقعت فعلا. وساعد على تلك المكائد الظاهرة والمستترة، الحالة التي آل إليها الحزبان، بفعل أخطاء في الحساب، إذ لم يكن المنطلق هو أن التحالف يعني أن يربح الحليف ورفيقه وليس أن يربح المتحالف على حساب رفيقه.