لماذا الوداع؟

TT

كثيرا ما يسألني الناس «لِمَ ودعت العراق وخرجت منه وأنت ذلك البغدادي الكرخي القشطيني الأصيل الذي تمتد جذوره إلى سوق الجديد والشيخ معروف؟». الواقع أن هذا هو السؤال الذي لا ينفك الناس، والصحافيون منهم خاصة، يستفسرون عنه من كل مغترب عراقي، أو عربي. لماذا تركت بلادك؟ حتى أنا لا أنفك أوجِّه هذا السؤال إلى زملائي وأصحابي في الغرب. وهو سؤال مهم جدا إذا شئنا أن نوقف هذا النزيف للأمخاخ العربية، ما يسمى بهجرة الأدمغة.

كنت قبل أيام قليلة بين أحضان حبيبتي، حبيبة العمر، باريس. هناك التقيت بصديقي الخطاط العراقي المبدع عبد الغني العاني، فيلسوف الخط العربي. ما أن استعرضنا آخر أعماله التي يزمع الآن تجميعها في سويسرا، في مؤسسته الخاصة، مركز العاني للخط العربي، حتى بادرته بنفس السؤال: لماذا لم تعد إلى العراق بعد الانتهاء من دراستك؟

ابتسم وقال «كنت على وشك الرحيل إلى بغداد. جمعت حاجياتي، واتخذت ترتيباتي للسفر، ثم قرر مدير المركز الثقافي العراقي في باريس، السيد وليد عباس، تنظيم معرض خاص لأعمالي في قاعة المركز، كوداع لي، ولتعريف الفرنسيين بفني. تم ذلك في عام 1976، ونظم المعرض، ووجهت الدعوات للصحافيين والإعلاميين والمستشرقين وسواهم من المهتمين بتراث الإسلام والحضارة العربية. تفضل سيادة السفير بافتتاح المعرض، ومن ورائه دخل ممثلو الحكومة وحزب البعث. من المعتاد للخطاطين العرب والمسلمين أن يظهروا مهاراتهم الفنية بخط روائع آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، ونحو ذلك من حِكَم الأدب العربي وبدائع الشعر».

هذا ما رأيته في ستوديو العاني، وهذا ما أقدم على عرضه فخورا به في ذلك المعرض، ولكن ما أن دخل ممثلو الحزب في القاعة، حتى نظروا مندهشين، ساخطين. دمدم رئيسهم مسؤول الحزب «ما هذا؟ ماكو لوحات لشعارات الحزب؟! ماكو لوحات للسيد الرئيس حفظه الله؟ بس آيات وآيات من القرآن!». خرجوا زعلانين، غاضبين. عادوا إلى أماكنهم ليتناقشوا في هذا الخطب الجلل. فنان خطاط لا يلتفت إلى مسؤولية الوطن. يكتب لوحات مثل ما يعجبه!

وعاد صاحبي عبد الغني العاني إلى غرفته ليقضي ليلة من أزعج ما قضى في حياته من ليال. لا شك ـ قال لنفسه ـ أنهم سيبعثون بتقرير سري في الموضوع إلى الوزارة في بغداد، ولا شك أن المسؤولين في الوزارة سيسألونه كيف أغفل خط شعارات البعث، يعني على الأقل، أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة! ظل صديقي يتقلب في فراشه ويقلب أفكاره. وعندما حل الصباح كان قد اتخذ قراره. لن أعود إلى العراق وأواجه هذه المحنة. بقي في باريس يعلم النصارى كتابة آيات الذكر الحكيم.

www.kishtainiat.blogspot.com