وماذا لو سقطت ولاية الفقيه؟

TT

طهران لا تريد الاعتراف، وأميركا يناسبها التكتم، على حقيقة أن العقوبات التي فرضت على إيران، آتت أخيرا أكلها. التقارير الأميركية لم تخف منذ سنوات أن ثمة سباقا بين إسقاط النظام الإيراني اقتصاديا أو الاضطرار إلى إنهائه عسكريا. الأميركيون استبشروا خيرا عندما اندلعت تظاهرات عارمة منذ سنتين، احتجاجا على إعلان الحكومة الإيرانية تقنين مادة البنزين. اشتعلت محطات الوقود نارا، وهب سكان المدن، ردا على القرار. أدرك الأميركيون يومها، أنها «البروفة» الأولى لغضب سيتصاعد، مع استمرارهم في تجفيف الاستثمارات الأجنبية، وإيصال الحكومة إلى مرحلة العجز عن تسديد ثمن وارداتها، ليختنق الشعب غيظا وينفجر.

تزوير الانتخابات، كان المناسبة التي أخرجت الإيرانيين عن صمتهم. الفقراء في الريف لم ينبذوا نجاد، هؤلاء ليسوا تجارا ورجال أعمال أنهكتهم العقوبات الاقتصادية. المحنة في المدن، وعند الطبقة التي اختنقت حصارا وتريد حرية السفر والحركة والتواصل مع العالم الخارجي. هؤلاء هم أتباع الثورة الخضراء. الإيرانيون كانوا يباهون بتمويل الحركات المقاومة قبل أن يبلغ مستوى البطالة حدودا قياسية، طلب الموت لإسرائيل لم يكن يزعجهم، قبل أن يدفعوا ثمنه عوزا. والشبان الغاضبون اليوم، لم يكونوا ليجازفوا بحياتهم، لو بقي لهم في الأفق بصيص ضوء. نجح الغرب إذن في محاصرة النظام الإيراني حد إخراج تناقضات الملالي إلى وضح النهار. رجال الدين في إيران لم يكونوا يوما على وئام، فساد النافذين لا جديد فيه. الخميني، قائد الثورة، بما كان له من سلطان وولاية فقهية مطلقة، رحل منذ عشرين سنة، ورضي الإيرانيون بخلفه رغم خلافات العديدين معه. الجديد هو أن الخناق قد ضاق، وأثمر زلازل اعتراضية.

النزاع حول نظرية ولاية الفقيه، ومدى الصلاحيات التي تعطى للولي وكيفيتها، قديم بين المحافظين والإصلاحيين. خاتمي خسر رهان التغيير يوم وصل إلى الحكم، لم تكن الفرصة مؤاتية. أميركا كانت ترصد الوضع بمجهرها ولا تزال. نزاع الملالي وتياراتهم معروفة لأميركا والغرب، ميول الإيرانيين ومتطلباتهم كانت تعج بها الصحف الفرنسية. التردي المعيشي، انتشار الحشيش، توق الشباب للحرية، كلها مأخوذة بعين الاعتبار. كان لا بد من انتظار استواء المزاج الإيراني لينضج التململ جيدا ويتحول إلى رفض لا عودة عنه.

لكن التمرد الإيراني ينجب ثمرات غير منتظرة أحيانا. يوم بدأ الغضب على الشاه منذ أكثر من ثلاثين عاما، كانت طليعة الغاضبين علمانية، ديمقراطية، طالبت بملكية دستورية، ووجدت مساندة من الغرب. النتيجة المفاجئة ولادة جمهورية إسلامية. كان الإيرانيون غاضبون من الشاه لتغريبه الشديد للبلاد وأمركته النافرة، اليوم يستشيطون من التقوقع على الهوية والعداء المبالغ فيه لأميركا. رضي الإيرانيون منذ ثلاثين سنة بالانتقال من تطرف إلى تطرف، وخرجوا من ديكتاتورية ليقعوا تحت غيرها، لكن بنكهة ثيوقراطية. سلطة رجال الدين على الحياة السياسية جزء من التراث الإيراني، وإن اختلفت الكيفية. وتأثر المنطقة العربية بما يحدث في طهران كان دائما كبيرا، وإن بدا دويه شديدا بحلول الخميني في البلاد. من يومها والعرب يدورون في فلك صد الثورة، بدءا من هجوم صدام على إيران لحماية البوابة الشرقية، وصولا إلى معاداة حماس. ما يحدث اليوم في إيران، بصرف النظر عن نتائجه، قد لا يمر عابرا على شعوب المنطقة. مبالغة العرب في تصوير الولي الفقيه، كسلطة مطلقة عند كل الإيرانيين، لا بل الشيعة أجمعون ـ وهو أمر ليس بصحيح ـ ثم رؤية الشعوب العربية، لهذا الولي فجأة، مكسور الكلمة، مستضعف الجانب، يطرح أسئلة كثيرة. حدوث انقلاب جذري في إيران، لا يزال أمرا مستبعدا. رضوخ خامنئي، مجبرا، لتعديلات دستورية ترضي الإصلاحيين، وهو ما ينادون به منذ زمن، قد يصبح المخرج الوحيد، في حال استمرت الاحتجاجات الساخطة. الإصلاحيون الخارجون من عباءة النظام الإسلامي، لا يبدو من طروحاتهم أنهم يختلفون كثيرا عن نجاد في الرؤية لدور إيران. الخلاف الفعلي ليس على تعزيز مكانة بلدهم وحماية تمدده وسطوته، وإنما على السبيل للوصول إلى هذه الغاية القومية الكبرى. مطالب الإصلاحيين تتركز على تعديل عمل المؤسسات الدستورية، وتشذيب صلاحياتها، ومنها عدم غربلة الراغبين في الرئاسة قبل ترشحهم. ما يريده الإصلاحيون هو مزيد من الديمقراطية من أجل إيران قوية، أكثر شرعية وعنفوانا في عيون العالم. وإن نجح هؤلاء، وبقي النظام الإسلامي كنموذج سياسي، يستطيع أن يطور نفسه من الداخل، ويصحح مساره، قد يكون وقعه أقوى بكثير من وصول نجاد إلى الرئاسة لمرة جديدة، خاصة أنه تحول إلى ثمرة يسهل قطافها. مشكلة إيران مع العالم ليس الطموح النووي العتيق الذي ابتدأ مع الشاه، ولا يبدو أن أي إيراني يبلغ السلطة سيوافق على إيقافه. قضية إيران أنها تطرح نموذجا إسلاميا لم يسبق له مثيل منذ سقوط الخلافة. إمكانية انتصار الإصلاحيين في المعركة الدائرة في شوارع طهران، يجعلنا نلتفت مليا إلى ما قاله خاتمي وهو أن: «الدفاع عن ولاية الفقيه اليوم لا يحصل إلا في إطار الدستور. وفي حال حذف من الدستور فإن ولاية الفقيه تصبح نظرية فقهية أو نظرية كلامية لا تلزم أحدا بها». وجود الولي الفقيه على رأس الجمهورية، بما له من خصوصية شيعية، كان مظلة واقية من عدوى استنساخ «الموديل» الإيراني في المنطقة العربية ذات الغالبية السنية، وإن كان التأثير ليس بقليل. فكيف سينظر العرب إلى النموذج لو أسقطت الولاية أو تقزمت، وانتعشت حرية في الدولة الدينية.

إيران لم تكن يوما هامشية في المنطقة، وهي لن تكون كذلك في المستقبل، ولو تمكن الإصلاحيون ـ وهذا هو هدفهم المعلن على الأقل ـ من تشذيب النظام الإسلامي من عيوبه الدستورية، وملامحه الديكتاتورية، ونجحوا في استكمال المسار، عندها قد يصبح استيراد الثورة الإسلامية بثوبها الأخضر، أكثر إغراء للبعض من السواد الذي اتشحت به في مطلع شبابها. لهذا فإن صمت أوباما، مقابل الجعجعة الأوروبية المتسرعة، ينطوي على حكمة قد لا يفقهها كثيرون.

[email protected]