موسم «تبويس اللحى» في لبنان

TT

على ماذا يختلفون.. وعلى ماذا يتصالحون؟

سؤال حارت البرية فيه يتوجب توجيهه إلى زعماء لبنان وقادة الرأي فيه.

من حق أي لبناني «يتفرج» اليوم على مسرحية لقاءات الأضداد في بلده أن يتساءل: هل بات قدره التحول إلى وقود بشري رخيص على ساحة خلافات زعمائه (وإن كرموه بتسميته شهيدا بعد مقتله)، ومن ثم إلى مصفق أرخص لحفلات مصالحاتهم الفولكلورية؟

لماذا خربنا أمن البلد واقتصاده وكدنا أن نتسبب في حرب مذهبية لا تبقي ولا تذر، وشغلنا العالم أجمع بمشكلاتنا المستعصية.. ثم عدنا إلى «تبويس اللحى» وكأن شيئا لم يكن؟

قد يوحي مهرجان «تبويس اللحى» بأن لبنان أصبح، بين ليلة وضحاها، جنة الله على أرضه، لا خلافات بين أبنائه تكاد تحولهم إلى شعبين في بلد واحد، ولا مشكلات من أي نوع كان، سياسية أم اقتصادية أم حتى مذهبية.

ولكن في بلد تتحكم فيه العصبيات في السياسة وتتعايش عشائره المذهبية بحذر تعكسه مطالبة بعضها بـ«ضمانات» في بلدها.. لا يختلف لبنانيان على أهمية السلم الاجتماعي في بلدهم، ولكن القاعدة الصلبة لهذا السلم تنطلق من مصالحة حقيقية بين عشائره وشرائحه تزيل الاحتقان وتلبي، في الوقت نفسه، متطلبات الحد الأدنى من المواطنة.

المصالحة الحقيقية بين اللبنانيين تبدأ من القاعدة. وما يشهده لبنان حاليا من مصالحات «فوقية» بين الزعماء والأقطاب يندى له جبين كل مؤمن بمنهجية سياسية عقائدية، كونها مصالحات شخصية على حساب القناعات الشعبية، ما يحمل على الاعتقاد بأن العمل السياسي في لبنان «الديمقراطي» لا يهدف إلى ترجيح نهج سياسي ـ اقتصادي معين أو صياغة جامع مشترك للعيش المشترك في بلد نال حديثا آخر اعتراف عربي بكيانه... بل التنافس على «كعكة» السلطة، لا أكثر ولا أقل، خصوصا أن هذا التنافس يتّقد في المواسم الرسمية لتحديد الحصص (الانتخابات مثلا)، ويهدأ حين تتوزع بمعادلة ترضي اللاعبين الأساسيين، ولو مؤقتا.

حفلة «تبويس اللحى» في لبنان يمكن إدراجها في خانة استراحة المحاربين، أو تحت عنوان «عفا الله عما مضى»، ولكنها في حقيقتها مجرد مرحلة «انتظار وترقب» تفرضها التحولات الإقليمية غير الواضحة المعالم حتى الآن. وقد لا يكون من المبالغة إعطاء العامل الإقليمي الدور المرجح لهذه المصالحات «الزعاماتليكية»، في وقت يتهيأ فيه الشرق الأوسط لتحولات ترجح انحسار عهد التيارات المتشددة لصالح العودة إلى الواقعية السياسية، ما يعني ترجيح كفة الدول التي توصف بـ«المعتدلة» في تقرير مستقبل المنطقة.

بوادر العودة إلى الاعتدال أكثر من أن تحصى، ففي إسرائيل بدت هذه العودة في اضطرار رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو إلى أن يتفوه، للمرة الأولى، باسم «الدولة الفلسطينية» بعد أن كان اليمين الإسرائيلي الشوفيني قد انتخبه لمعارضته المطلقة لقيامها. ومهما قيل في الشروط التعجيزية التي ربط قيامها بها فإن تراجعه العلني عن غلوائه «القومي» بداية مسيرة من «التنازلات» حيال التسوية السلمية للنزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.

وفي سورية يعكس التقارب المستجد مع السلطة الفلسطينية، بعد زيارة الرئيس محمود عباس الأخيرة إلى دمشق، ليس فقط عودة الحوار السوري مع السلطة الفلسطينية «الرسمية»، بل انفتاحها أيضا على مساعي السلام التي يقودها الرئيس الأميركي باراك أوباما. وغني عن التذكير بأن التقارب الحاصل حاليا على صعيد العلاقات السورية مع السعودية من شأنه أن يشجع الانفتاح السوري على المبادرة السلمية في المنطقة.

وداخل البيت الفلسطيني يمكن تلمس عودة الواقعية السياسية في الانفتاح المستجد على علاقة السلطة الفلسطينية بحركة حماس.

وفي إيران قد يؤدي انقسام النظام بعضه على بعض إلى انهماكه إلى فترة غير قصيرة بمشكلاته الداخلية. ولكن، حتى في حال توصل النظام إلى قمع الانتفاضة الإصلاحية، لن يمر اهتزاز صورة نظام ولاية الفقيه دون تأثير سلبي على الاستراتيجية «الثورية» للتنظيمات الخارجية المتحالفة مع طهران، ما قد يعزز فرص التهدئة في لبنان.

على هذه الخلفية الإقليمية يمكن إيجاد عذر، ولو واهٍ، لحفلة «تبويس اللحى» في لبنان، ولكن ما لا يمكن أن يغفر للمتصالحين هو إفراغهم اللعبة السياسية في لبنان من محتواها السياسي وتحويلها إلى مجرد لعبة.