الأمر والتدبير في علم التشفير

TT

حجم التقنية المحاط بنا ليلا ونهارا في كل مكان جعل إمكانية استراق السمع والنظر أيضا ليست فقط من خاصية الجن ولكنها فرصة للبشر أيضا، فكل كلمة تقال اليوم بات من الممكن الإنصات لها بطرق «غير مباشرة»، فجهاز الهاتف المحمول يستطيع التقاط المحادثات الهاتفية وغير الهاتفية، وكذلك جهاز الكمبيوتر أيضا. وإذا كان للحيطان آذان في يوم ما فإن الآذان اليوم في كل مكان، والناس في فترة الستينات والخمسينات الميلادية من القرن الماضي حين تبلورت فكرة التنصت والتجسس على البيوت والهواتف بدأوا يلجأون إلى أساليب «غير تقليدية» لتوصيل المعلومات بين بعضهم البعض، وتطورت الأمور وزادت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتأخذ أبعادا أشبه بالكوميدية. فلدي أكثر من مثال يؤكد انتشار ظاهرة تشفير الكلام بشكل أصبح الواحد بحاجة إلى معجم لغوي خاص جدا لمتابعة ومعرفة ما الذي يقال! فها هي إحداهن تشبّه وتسمي ضابط الجوازات والهجرة بالمطارات الأمريكية بالـ«فتة» حتى لا يفهم أحد مقصدها، وتكون الفتة باردة أو حارة جدا بحسب صعوبة الإجراءات في ذلك اليوم. وأخرى تسمي أفواج السمك المفضلة لصيدها «بن لادن» على اسم زعيم تنظيم القاعدة، لأنهم يجتمعون كلهم «سوا» خلف سمكة كبيرة! ناهيك عن تبديل الجمل والأسماء بالأرقام أو العكس، بحيث يصبح المتنصِّت نفسه في حيرة من أمره فيصبح بين شكين، إما أنه هو تحديدا يهلوس، أو أن المتنصَّت عليهم يتعاطى أصنافا متطورة من المخدرات الفاسدة.

اليوم الإنسان لا يستطيع أن يغنّي إلا تحت رذاذ مياه «الدش» في حمّام الصباح لأن صوت الماء يغطي على صوته، وكذلك الأمر بالنسبة إلى حرية الحديث.. هو لن يستطيع أخذ راحته إلا بضجيج شديد يحيط به يضمن له أن التنصت عليه سيكون «مشوشا». أبراج شركات الاتصالات في كل مكان وبالتدريج ستتحول لتكون داخل المنازل نفسها، ودرجات الاستقبال لديها تقوى بشكل هائل.

الإيرانيون في وسط مظاهراتهم واحتجاجاتهم ومحاصرتهم من الأجهزة الأمنية يحاولون فك الحصار بتشفير رسائلهم للعالم، ولكن الحقيقة أن الكل «يشفر» بطريقة أو بأخرى. استمع إلى أي مؤتمر صحفي لأي زعيم لبناني وهو يقول «نحن» و«هم» و«البعض» و«الاستحقاق»، وأتحدى أن يعرف أحد ما المقصود، وذلك بسبب واحد لا غير، وهو أن الموضوع مشفر جدا. هناك كلمات باتت بمثابة طوق نجاة تستخدم لمنع الإحراج والإحساس بأن الواحد بات محشورا في الزاوية أو خانة اليك بساعدين كبيرين، كلمات مثل «ده» أو «هادا» أو «البتاع» أو «الهيدا» أو الكلمة الأكثر غموضا «الأمم»، وكلها من أجل عدم التفسير والتوضيح والغوص في التشفير. الحكومات تشفر على الشعوب، والشعوب تشفر على الحكومات، والناس تشفر على بعض. ولذلك ليس غريبا الانتشار المهول لفكرة «سوء الفهم»! كيف لا ولا يوجد أحدنا فاهم الثاني!

[email protected]