عقدة الاختيار العالم ثالثية

TT

تؤكد الأحداث الأخيرة في إيران جانبا مهما من جوانب الصراع بين النظام العالمي بما هو نمط لتوزيع القوة وهرمية السلطة، والأنظمة السياسية ـ الاجتماعية في العالم الثالث، فكل تفاعل يجري في إطار الاختيار بين قبول الاندماج بالنظام العالمي وبالتالي الاعتراف بقواعده وبالوضع القائم وتجنب خرق هذه القواعد أو تهديد استقرار النظام، أو الاستمرار في مواجهة النظام العالمي (المعرف تجميلا بالمجتمع الدولي) وبالتالي تحمل تكلفة هذه المواجهة حربا اقتصادية وإعلامية وسياسية وربما عسكرية، وفي أقل الأحوال عزلة مطبقة. جميع بلدان العالم الثالث، غنيّها وفقيرها، لا بد وأن يواجه مثل هذه الاختيارات، هكذا كان الحال وما زال بالنسبة إلى العراق وسوريا وكوبا وفنزويلا والكونغو وموزمبيق ومصر والجزائر وماليزيا، إلخ. بالطبع النظام العالمي ليس جمعية خيرية بل هرمية من المصالح والقوة والنفوذ وقراءة آيديولوجية تبرر استمراريته واتساعه، وفي الكتابات الأكاديمية الراهنة هناك قراءتان سائدتان، الأولى هي قراءة الماركسية وما بعد الماركسية، فضلا عن القراءات الثورية الرديفة التي ترى أن مقاومة الاندماج القسري بالنظام العالمي ومقاومة هيمنة قواه الكبرى هو الخيار الذي يجب أن تختاره الشعوب الطامحة إلى حياة أفضل عبر تأكيد استقلاليتها وخياراتها الخاصة، أما القراءة الليبرالية السائدة في أمريكا وأوربا فهي تلك التي ترى أن العولمة الراهنة ألغت أي خيار بديل سوى قبول الاندماج بالنظام العالمي والإذعان لقواعده ومفاهيمه، بل إن هذا الاندماج هو الخيار «العقلاني» الوحيد، وأي خيار آخر سيكون مكلفا ومدمرا، وقوة هذا الخطاب تأتي من فشل المشروع الاشتراكي إثر انهيار منظومته السياسية ومن فشل النماذج البديلة التي أرادت أن تختطّ خطّا غير الاندماج القسري بالنظام العالمي وفق شروطه. تذهب إلى كوبا فتجد الشوارع خالية إلا من سيارات قديمة تعود موديلاتها إلى الستينيات من القرن الماضي والمكننة القديمة هي السائدة وغالبية الشعب من الفقراء، تذهب إلى فنزويلا لتجد زعيما شعبويا صعد عبر الديمقراطية وشعارات مواجهة الغرب الإمبريالي فإذا به يحارب الطبقة الوسطى ويفرض تدريجيا حكما شبه ديكتاتوري، تذهب إلى كوريا الشمالية فترى أمة جائعة معزولة تماما عن العالم الخارجي لا تعرف مما يجري حولها شيئا سوى كيم جونغ إيل وقنبلته النووية المزعومة، تذهب إلى إيران فتجد أمة ذات حضارة عريقة ما زالت تحكم بمفهوم الحق الإلهي ورئيسا شعبويا يدّعي أنه شعر بهالة من النور تحيط به في أثناء إلقائه خطابه في الأمم المتحدة مفندا المحرقة التي لم يتهمه أحد بها والتي يقر معظم الألمان بحدوثها، تذهب إلى السودان فتجد شعبا فقيرا مورست الإبادة الجماعية ضد أحد مكوناته ولكن النظام ثارت ثائرته وتم تجميع كل قواه عندما صار التهديد يطال الزعيم الذي يقدم على أنه رمز للشعب، تذهب إلى ليبيا فترى أمة غنية بالثروات تهدر ثرواتها على يد الزعيم تارة لدعم الجيش الجمهوري الأيرلندي ومرة لإقامة وحدة إفريقية في قارة تفتك بها النزاعات الإثنية والقبلية.

إذا كانت هذه هي النماذج الرافضة للاندماج بالنظام العالمي، فإنها في الحقيقة الاستثناء الذي يراد به شرعنة القاعدة، إنها المبرر الأقوى لجعل الآخرين يُحجِمون عن أي خيار بديل. إن القصة أعقد من ذلك لأن النظام العالمي بدوره يقاوم بروز أي بديل عقلاني قادر على أن يطرح مشروعا تحديثيا ديمقراطيا ووطنيا وبراغماتيا في الوقت عينه. فالغرب تآمر على مصدق وأسقطه لأنه كان زعيما وطنيا وعقلانيا وديمقراطيا في الوقت عينه، وتم افتعال حرب أهلية في الكونغو الديمقراطية لمنع قيام سلطة وطنية قادرة على توظيف الثروات الطبيعية الهائلة للبلاد خارج دائرة المصالح الغربية، وموغابي كان الخصم المفضل للميديا الغربية ليس لكونه الديكتاتور الوحيد في إفريقيا بل لأنه الديكتاتور الذي اختار سبيل المواجهة. في العراق اليوم يبدو علينا أن نختار بين استثمار النفط عبر الشركات الغربية الكبرى بعقود طويلة الأمد أو ترك تلك الثروة قابعة تحت باطن الأرض بعد أن تم تدمير البنية التحتية والعقلية الملائمة لاستثمار وطني مستقل. إن خصوم النظام العالمي الحقيقيين ليسوا السياسيين الشعبويين أو الدوغمائيين، بل السياسيون الوطنيون العقلانيون، فهؤلاء لن يذهبوا إلى قبول اندماج قائم على التبعية ولكنهم لن يخوضوا مواجهة انتحارية مع هذا النظام، سيختارون اندماجا يقوم على شروط أفضل لا تصبح بموجبه بلدانهم فريسة لنهب الشركات المتعددة الجنسيات ولا تنتهي إلى عزلة تامة عن التكنولوجيا الحديثة والعالم الخارجي أو إلى مواجهة عسكرية غير متكافئة تنتهي إلى تدمير البلد كما حصل في العراق وقد يحصل في كوريا الشمالية أو إيران.

معالجة العلاقة مع العالم الخارجي هي المحك الأساسي لفرز الزعامة الوطنية العقلانية الحقيقية عن نوعين من الزعامة، الزعامة الديماغوجية اللاعقلانية ذات المشروع الآيديولوجي أو الشخصي الضيق، أو الزعامة الانتهازية الفاسدة. ليست وصفة المواجهة المطلقة مع الغرب ولا وصفة التبعية المطلقة بقادرة على إنتاج مشروع نهوض وطني عقلاني حقيقي، ولهذا صارت شخصيات مثل مانديلا ومحاضير محمد وأردوغان نماذج طيبة لمشروع تحديث يمازج الخصوصية بالانفتاح، وليس كيم جونغ إيل أو صدام حسين أو القذافي أو أحمدي نجاد أو كاسترو. إن الديمقراطية هي شرط أساسي لإنتاج الزعامة الوطنية المستقلة، فلا يمكن لسياسي ذي مشروع وطني أن يطبق مشروعه بلا رضا شعبي حقيقي. واستبدال أي مشروعية أخرى (حتى لو كانت إلهية) بالمشروعية الديمقراطية سيخدم عملية كبت الإرادة الشعبية القادرة وحدها على دفع المشروع الاستقلالي العقلاني، أما الرهان على مشروعية ممنوحة من الخارج فهو رهان على منطق القبول الإذعاني بتبعية سلبية قد تسمح باستمرار الإمساك بالسلطة وبوفرة مالية لأعضائها وبناء المزيد من القصور الفارهة والمنتجعات، لكنها ستعزز انفصال الدولة عن غالبية مهمشيها ممن لا يحظى تهميشهم باهتمام سلطة لا يعنون شيئا لها أو بملاحظة الإعلام الغربي الذي لن يتذكرهم إلا عندما يغدو الديكتاتور خصما، وفي لحظة ما سيعلن المهمشون عن غضبهم، إنها لحظة قبول الفوضى كبديل عن «نظام» ليسوا شركاء فيه.