فقدان المصداقية

TT

لقد انشغل العالم أيما انشغال في شهر حزيران لهذا العام بالانتخابات الإيرانية، مع أن الترقب المسبق أولى تركيزا متساويا للانتخابات اللبنانية والإيرانية. ولكن الانتخابات اللبنانية سرعان ما حسمت من خلال اعتراف المعارضة في اليوم ذاته بنتائج الانتخابات رغم تحفظها على بعض الوسائل والأساليب التي استخدمت فيها، ليتفرغ المشاهدون بعد ذلك لمتابعة حلقات المناظرة بين المرشحين للرئاسة الإيرانية.

ولكن التحليل والتفكير والترقب والاستنتاج سرعان ما انحسر ليعطي طريقا لحملات إعلامية مكثفة تتابع لحظة بلحظة احتجاجات الفريق الخاسر في الانتخابات على النتيجة، رغم أن النتائج المعلنة أوضحت أن الفرق بينهما يصل إلى أحد عشر مليون صوت، وليست بضعة آلاف من الأصوات في ولاية واحدة يمكن أن يعاد فرزها كما حدث بين آل غور وجورج دبليو بوش عام 2000. لن أناقش هنا الموقف من نتائج الانتخابات ومن هو على حق ومن هو على باطل، ولكن الهدف هو أن أرصد سلوكا سياسيا وإعلاميا وأحلله وأضعه في الأطر والمعايير الدولية المتعارف عليها.

فقد سبق للغرب أن أنكر نتائج انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة بشهادة الرئيس كارتر والأمم المتحدة التي جرت في غزة عام 2005، ومع ذلك استنكف العالم الغربي عن الاعتراف بنتائج تلك الانتخابات، لا بل أطلق يد إسرائيل لتدمير الديمقراطية الفلسطينية عبر اعتقال ثلاثة وثلاثين عضو برلمان منتخب، وأصبح مجرد اعتقال نواب منتخبين، ومنهم رئيس البرلمان عزيز الدويك، يمثل فضيحة سياسية وأخلاقية لإسرائيل وحلفائها ونفاقهم المقيت.

ويسرد الرئيس كارتر كيف أنه اتصل باللجنة الرباعية، التي كان من المزمع أن تعقد في لندن بعد الانتخابات، وطلب من رئيسها إذنا بأن يتحدث للجنة ويضعها بصورة الانتخابات، فوافق الرئيس، ولم تعد رايس وزيرة الخارجية الأميركية في ذلك الوقت قادرة أن ترفض منح الفرصة لرئيس أميركي أسبق بعد أن وافقت أوروبا وروسيا على إعطائه فرصة الكلام. وقيل للرئيس كارتر حينئذ لديك اثنتا عشرة دقيقة، فقال: «هذا كل ما أحتاجه». وسافر إلى لندن على وجه السرعة وقدم عرضا عن نزاهة الانتخابات في غزة وشفافيتها وواجب الغرب الديمقراطي الاعتراف بنتائج هذه الانتخابات، وبعد أن قدم عرضا للرباعية، والكلام للرئيس كارتر، قرأت رايس الورقة الأميركية، التي أعدها مسبقا لها إليوت أبراهامز، ولم تأت ولو على ذكر جملة واحدة مما قاله الرئيس كارتر عن الانتخابات. وأضاف الرئيس كارتر بحسرة «وكأنني لم أقل شيئا، وكأنني لم آت إلى لندن وأعرض ما حدث وما يتوجب علينا فعله».

في مفارقة صارخة مع هذه الحادثة التي استذكرها الرئيس كارتر في دمشق بعد أن أنجز إشرافه على الانتخابات اللبنانية وحيا موقف المعارضة هناك، شهدنا موقف الغرب من الانتخابات الإيرانية، حيث انشغل الساسة والإعلاميون الغربيون وتجاهلت الصحف ومحطات التلفزة برامجها المعدة وأخبار العالم، لتركز على حدث واحد ووحيد، ألا وهو اعتراضات الخاسرين في الانتخابات الإيرانية على نتائجها، حيث سارعت معظم الصحف الأميركية والغربية إلى الطعن بنتائج الانتخابات الإيرانية، وقرر كتّاب الرأي والأخبار والمحللون قرار رجل واحد أن الانتخابات في إيران لم تكن حرة، موجهين انتقادات لاذعة للحكومة الإيرانية ومعبرين عن أعمق الشكوك بنتائج هذه الانتخابات.

ولا يتسع المجال هنا حتى لاستعراض العناوين التي امتلأت بها الصفحات الأولى والصفحات الداخلية للجرائد الأميركية والبريطانية والمجلات الرئيسة من «النيوزويك» إلى «الإيكونومست» (التي صدر عددها 20 ـ 26 حزيران بعنوان: إيران تنتفض)، ولكن الاستنتاج الدقيق والهام، هو أن الإعلام الغربي برمته، ومن دون أي تمايز، تبنى وجهة نظر الخاسرين وقدم دعما مطلقا لمرتكبي أعمال الشغب والتفجير وحرق الباصات وسرقة المحال التجارية وأصبحت كلمة الرعاع «Mob» فجأة كلمة إيجابية في صفحات الرأي الغربية، بل أصبحت «Mob» التي هي كلمة سلبية جدا في كل أدبيات السياسة الغربية لأنها تشير للجمهور اللامسؤول والفالت من عقاله، أصبحت كلمة خلاقة في حالة إيران «انظر الغارديان البريطانية 19 حزيران ص23». ولاحظ الرئيس أوباما «عنف» الشرطة الإيرانية، ودان «الوحشية»، وتباكى الجميع في الغرب على الحق في التظاهر من دون إيذاء، وهم الذين خلال ستين عاما لم يراقب أحد منهم يوما القتل والضرب والتنكيل بحق المتظاهرين في فلسطين على يد الشرطة الإسرائيلية، وحتى هذه الأيام، حيث تشهد نعلين وبعلين الفلسطينيتين تظاهرات أسبوعية ضد جدار الفصل العنصري، وغالبا ما يكون من ضمن المنكل بهم طلاب ومتظاهرون أميركان وغربيون، ومع ذلك لم يلاحظ سياسي غربي واحد حق الفلسطينيين في التظاهر، وبالطبع هم أعجز عن إدانة عنف الجيش الإسرائيلي ووحشيته ضد المدنيين العزل في غزة، لا، بل إن جنود الاحتلال الإسرائيلي قد اعتدوا على مديرة المركز الثقافي الفرنسي في نابلس وسحبوها من سيارتها أرضا وانهالوا عليها بالضرب المبرح قبل أن يسحب جندي إسرائيلي سلاحه عليها ويهددها بالقتل، ومع ذلك لم تفرد الصحف الغربية صفحات خاصة لهذا الاعتداء، علما أنه أحد الاعتداءات التي يقوم بها الجنود الإسرائيليون ضد الدبلوماسيين والمتظاهرين الغربيين الذين عبروا يوما عن قناعتهم بعدالة القضية الفلسطينية.

وهل يرى الذين يراقبون ما يجري في إيران، عنف المستوطنين اليهود وهم يعتدون يوميا على المدنيين الفلسطينيين فيحرقون محاصيل المزارعين في نابلس ويحطمون سياراتهم ويجرفون أراضيهم الزراعية.

هل يقرأ هؤلاء المتباكون على الخاسرين في إيران ما كتب آلان باببيه وما قاله أبراهام بورغ، رئيس الكنيست الإسرائيلي الأسبق عن تفشي «العنصرية والفاشية والتطرف التي تهيمن على إسرائيل».

لو ندد العالم الغربي بالقمع والعنف والعنصرية والوحشية التي تمارسها إسرائيل منذ سنوات ضد المدنيين الفلسطينيين لاكتسب موقفهم من أجل الامرأة الإيرانية ندا سلطاني مصداقية لدى القارئ العربي، ولو أدان الرئيس الأميركي مقتل راشيل كوري الشابة الأميركية التي سحق جسدها البلدوزر الإسرائيلي فقط لأنها حاولت أن تحمي منزلا فلسطينيا من الهدم وطفلا فلسطينيا من القتل العشوائي، لصدقنا أنه مهتم بحياة ندا سلطاني. لو قال الساسة الغربيون ولو مرة واحدة إنهم يراقبون ما يفعله المستوطنون اليهود وجنود الاحتلال من جرائم وعنف ووحشية ضد المدنيين من متظاهرين ومزارعين وطلاب، لأخذنا بجدية واحترام ما يقولونه اليوم عن الأحداث في إيران. ولكن، وكما أن جنود وشرطة الاحتلال الإسرائيلي تمكنوا من ممارسة القمع والعنصرية ضد الفلسطينيين لعقود خلت دون أن يحتج سياسي أو إعلامي غربي، فإنهم بدأوا اليوم باستخدام العنف ضد الدبلوماسيين الغربيين مهددين الدبلوماسية الفرنسية في نابلس بالقتل. بعد أن صمتوا لسنوات على قيام إسرائيل بقتل من تشاء من المدنيين العرب دون حساب، فإن انتصار الغرب لإحراق المساجد والسيارات والمباني العامة ونهب المحال التجارية في إيران من قبل مؤيدي الخاسرين، قد يبعث برسالة للشعوب الغربية نفسها أن هذا الخيار متاح لهم إذا لم ترق لهم نتائج الانتخابات التي تجري في أي مكان، بحيث تعني الديمقراطية حرية الشغب والإحراق والتخريب. هل يبعث الغربيون من أنموذج تصرفهم مع الانتخابات الإيرانية رسالة إلى شعوبنا بأنها ليست ناضجة سياسيا كي تتقبل الخسارة في الانتخابات، أم أنهم يبعثون برسالة إلى شعوبهم التي إن أرادت الاحتجاج مستقبلا فيمكنها تقليد الاحتجاجات الإيرانية بالتفجير الانتحاري وإشعال النيران في المباني العامة وقتل الخصوم في الشوارع؟ أولم يكن ممكنا لخصوم أحمدي نجاد الغربيين أن يكونوا على موقفهم المعادي منه، ولكن في الوقت نفسه يقفون ضد أعمال التخريب والشغب والتفجير الذي يقوم به المحتجون، فيرسلون بذلك رسالة حضارية واضحة حول جوهر الديمقراطية ولا يزيدون التشويش الذي يلف قضيتها في بلداننا بسبب ازدواجية مواقفهم، أم أن الهدف هو تصعيد أزمة في إيران بعد أن تم افتعالها ومحاولة شق المؤسسة الدينية وتقويض النظام الإسلامي بما يخدم أهداف الغرب وأهداف إسرائيل، التي ما زالت، ومنذ أعوام خلت، تعتبر تقويض النظام الإيراني هدفا استراتيجيا لها وتضع كل المخططات والتمويل من أجل هذه الغاية.

لقد كتب سكوت ريترز في الـ«إنرجي إنتلجنس» أن ما جرى في إيران لم يكن عفويا، وأنه مخطط له وممول منذ سنوات، ومن الواضح مما جرى في إيران ومن ردود الفعل الغربية عليه، أنه لم يكن هناك أي شيء عفوي فيما جرى. فهل يمكن أن يقتنع أصحاب الشأن في منطقتنا أن القوى الغربية تتفاعل مع الأحداث في منطقتنا وفق مصالحها ورؤاها والفائدة التي تبغي جنيها من بلداننا وشعوبنا، وهل يمكن للبعض أن ينضج ويرى حقيقة أوهام يروجها الغربيون عن الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان التي ترى أو لا ترى، وتراقب أو لا تراقب، وتعاقب أو تصمت وفق مصالح فئة حاكمة ومستحكمة بالقرار والمال والإعلام.

www.bouthainashaaban.com