هل هذا ما يريده أوباما؟ «غيتو فلسطيني» بإدارة إسرائيلية!

TT

رسم بنيامين نتنياهو «الدولة الفلسطينية» مثل شراع فوق سراب. ثم أطلق باراك أوباما في أثرها.

الخلاصة البسيطة الآن، بعد انتظار دام أكثر من ثلاثة أشهر، أن التحدي الذي تواجهه الإدارة الأميركية، لن يكون كيف يمكن دفع هؤلاء الحمقى في تل أبيب نحو إبرام التسوية والتوصل إلى سلام يخدم إسرائيل والمنطقة والمصالح الأميركية والتوازنات الدولية، بل كيف يمكن معالجة الجرح العميق الذي أصاب أوباما من دون انفجار أزمة كبرى بين واشنطن وتل أبيب!

الاستخلاصات الأولى في الجانب العربي بعد خطاب نتنياهو المتصلب والمخادع، تشي بأن التغيير الذي تحدث عنه الرئيس الأميركي الجديد والنبرة العالية والصريحة حيال ضرورة إقامة الدولة الفلسطينية كأساس محوري للحل في المنطقة، لم يثمرا شيئا سوى الخيبة!

نعم الخيبة، لأنه بعد أكثر من 24 ساعة على خطاب نتنياهو لم يكن لدى الإدارة الأميركية، التي يُفترض أنها كانت غارقة في الذهول، أكثر من الكلمات المخيبة للآمال في الدول العربية، عندما قال المتحدث باسم البيت الأبيض روبرت غيبس إن الرئيس أوباما «يرحب بالخطوة المهمة إلى الأمام في كلمة نتنياهو (...) إن الرئيس ملتزم بالدولتين. دولة إسرائيل اليهودية (لاحظ [اليهودية]) ودولة فلسطين المستقلة في الأرض التاريخية للشعبين (لاحظ [التاريخية للشعبين])، ونحن نعتقد أن هذا الحل يمكن وينبغي أن يضمن أمن إسرائيل وتنفيذ التطلعات الشرعية الفلسطينية بإقامة دولة قابلة للحياة. ويرحب بتبني نتنياهو لهذا الهدف».

هكذا بالحرف. ولكن نتنياهو لم يتبنَّ واقعيا هذا الهدف بل نسفه من أساسه وأطلق موجة عارمة من القنوط والغضب في الشرق الأوسط ليست في مصلحة السلام على الإطلاق.

وإذا كان موقف أوباما لم يخرج عمليا عن سياق سياسية التطرف والعدوان والتوسع التي تبناها دائما، فإن رد الفعل الأولي الذي أدلى به البيت الأبيض أشعل الغضب لأسباب ثلاثة:

أولا: لأنه صدق أن نتنياهو وافق على مبدأ قيام الدولة الفلسطينية، ونطق أخيرا بهذه «الكلمة السحرية»، ولم يتوقف عند جبال الشروط المستحيلة التي وضعها لتحول دون قيام هذه «الدولة»، وهي أشبه بـ«غيتو فلسطيني» بإدارة إسرائيلية، أو مجرد «أوشفيتز جديد» يشرف عليه الإسرائيليون، ربما تنفيذا لنظرية يهودي آخر يدعى سيغموند فرويد سبق أن قال «إن الضحية تتوق دائما إلى لعب دور الجلاد».

إذن ها هم الإسرائيليون الذين كانوا ضحايا الجلاد النازي في الهولوكوست يتفوقون عليه كجلادين للضحية الفلسطينية!

لا ندري في الواقع أين وجد أوباما العناصر التي تساعده على الافتراض أن نتنياهو وافق على قيام الدولة الفلسطينية، إذا كان قد اشترط أن تكون منزوعة السلاح وتخضع لرقابة أمنية من البر والبحر والجو، وتُمنع من عقد أي أحلاف عسكرية، ولا تملك عاصمة هي القدس الشرقية، لأنه يريد كل القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، ولا تملك حدودا واضحة ومحددة لأنه متمسك بسياسة الاستيطان التي تقضم الأراضي الفلسطينية.

كيف يمكن أن نسمي هذه الجزيرة من الصفيح والمحاصرة أيضا دولة قابلة للحياة؟ ثم إن الأخطر هو كيف يمكن هذه «الدولة» أن تحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في العالم، كما يريد نتنياهو الذي قال إن هذه المشكلة يجب أن تُحَلّ خارج نطاق الدولة الإسرائيلية؟

وتصل الكارثة مداها الأقصى من الخيبة في قول أوباما عبر المتحدث بلسان البيت الأبيض، إنه يقبل بدولة إسرائيل اليهودية، أي أنه يرضخ سريعا لمطالبة نتنياهو الفلسطينيين باعتراف واضح وصريح بـ«يهودية إسرائيل».

إن هذا الاعتراف ينطوي على جريمتين: أولا استكمال التهام الجغرافيا الفلسطينية. وثانيا، استكمال تزوير التاريخ الفلسطيني.

يتمثل وجه الجريمة الأولى في أن الإقرار بيهودية إسرائيل يشكّل مدخلا قانونيا وتلقائيا لتهجير فلسطينيي أراضي 1948، وذلك بهدف الوصول إلى «نقاء» يهودية إسرائيل من فلسطينيي الداخل. فأين يذهب هؤلاء؟ إلى التهجير أم إلى الغيتو الفلسطيني المختنق أصلا على ما يريد نتنياهو؟

وجه الجريمة الثانية هو الأخطر لأنه تزوير للتاريخ. فقد كان واضحا أن نتنياهو تجاوز غلاة الصهيونية ومؤسسيها منذ ثيودور هرتزل، عندما قال في خطابه إن صلة الشعب اليهودي بأرض إسرائيل مستمرة منذ 3500 عام. يهودا والسامرة أرضنا. وحق الشعب اليهودي في إسرائيل لا ينبع من المصائب التي أصابته وكانت ذروتها المحرقة النازية. وإذا كان هناك مَن يقول إن إسرائيل نشأت نتيجة المحرقة فإن نتنياهو يقول لو نشأت إسرائيل في الوقت المناسب لما وقعت المحرقة.

المذهل والمثير في كل هذا أن أوباما عندما يقبل بنظرية «يهودية إسرائيل» فإنه يقبل بتزوير التاريخ وبالتمهيد ضمنا لموجة التهجير التي ستطاول فلسطينيي أراضي 1948.

عمليا عندما قرر نتنياهو أن يلقي خطابه من مركز «بيغن ـ السادات» في جامعة بار إيلان معقل اليمين الأكاديمي في إسرائيل، ظن البعض أنه يريد أن يخطو على طريق مناحم بيغن الذي أبرم السلام على مصر على قاعدة «الأرض في مقابل السلام»، وفكك المستوطنات واستجاب لشروط السادات وكارتر آنذاك، ولكنه تعمد على ما يبدو أن يقدم أفكارا وشروطا معاكسة تماما.

وإذا كان مثل هذا التطرف لا يثير ذهولا في العالم العربي الذي يعرف تماما سياسات نتنياهو وزملائه في الحكومة اليمنية، فإنه يفترض أن يثير ما هو أكثر من الذهول في البيت الأبيض، الذي سرعان ما يكتشف أنه مضطر إلى واحد من أمرين:

أما أن يتراجع باراك أوباما عن حماسته ولهجته الحازمة حيال إصراره على قيام الدولتين، وأما أن ينخرط في «نزاع» مع الحكومة الإسرائيلية، وهو نزاع لن يصل بالتأكيد إلى مرحلة ليّ ذراع نتنياهو كما فعل مثلا، دوايت إيزنهاور عندما ضغط على غولدا مائير وأجبرها على الانسحاب من سيناء بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.

وفي هذا السياق يبدو أن نتنياهو يشن هجوما مبكرا لكسر ضغوط أوباما على ثلاثة محاور:

أولا: الإيحاء بأن حكومته في تل أبيب معرضة للسقوط، بما يعيد خلط الأوراق، وهو ما يشل قدرة أوباما على فعل أي شيء وهو الغارق في معالجة الأزمة الاقتصادية الكبرى في أميركا.

ثانيا: تنظيم حملة قاسية ومعادية لأوباما داخل إسرائيل، حيث قام اليمين المتطرف برفع صوره وهو يرتدي كوفية وعقال ياسر عرفات وقد كتب عليها: «باراك حسين أوباما. معاد للسامية وكاره لإسرائيل».

ثالثا: توظيف هذه الحملة داخل صفوف الحزب الديموقراطي الأميركي، وفي أوساط اليهود في الكونغرس، حيث بدأت تظهر معالم امتعاض من الضغوط العلنية التي تمارسها إدارة أوباما على الحكومة الإسرائيلية، بما سيؤدي إلى ظهور إسرائيل في مظهر إحدى جمهوريات الموز، وهو ما سيزيد من غلواء التطرف المعادي لها في الشرق الأوسط ويفشل خطة أوباما للتسوية، وفق المنطق الصهيوني المتنامي الآن في كواليس واشنطن السياسية.

أمام هذه الخريطة السلبية والمتشائمة يمكن القول إن سفن الأمل التي أطلقها أوباما في الشرق الأوسط وصلت سريعا إلى أرخبيل الصخور الإسرائيلية، وإن أحلام التسوية تتهاوى باكرا كما تهاوت دائما في غابة اليأس التي تعج بالضواري الصهيونية من تل أبيب إلى واشنطن.