اليونسكو: لماذا الرسّام وليس عصفور أو تمَّام؟!

TT

ما أشبه الليلة بالبارحة! مع اقتراب موعد اختيار مدير لمنظمة الثقافة والعلم والتربية (اليونسكو)، تحتدم المعركة بين المرشحين لإدارة هذا المنبر الدولي. المنصب يمنح الفائز وهجا ثقافيا، ويرضي كبرياء دولته، ويؤكد أصالة شعبه الثقافية والحضارية.

لم يكن العرب غافلين عن أهمية اليونسكو. بل حاولوا الوصول إلى المنصب. قبل عشر سنوات، تقدم مرشحان عربيان جادان. لكن في غياب التنسيق، بات المرشح المصري إسماعيل سراج الدين منافسا «عبقريا» للمرشح السعودي غازي القصيبي، الوزير والسفير والشاعر.

ولأن سراج الدين خبير في الاقتصاد (كان موظفا كبيرا في المصرف الدولي)، فقد كتبت متمنيا لو أن مصر تسحب ترشيحها لسراج الدين، لتمنح فرصة أكبر للدكتور القصيبي، لصلته الأوثق بقضايا الثقافة.

كانت المنافسة العربية فرصة لعنصريي الثقافة، للحيلولة دون وصول مرشح عربي إلى قمة هذه المنارة العالمية. لعب اليهود، بما لهم من نفوذ في السياسة، ونشاط في الفن والثقافة دورا كبيرا في إحباط وصول القصيبي. كان الرجل مؤهلا بثقافته وكفاءته الإدارية. كان كسفير في لندن عمدة لعرب بريطانيا. وفي السياسة، فلعل قراء «الشرق الأوسط» القدامى يتذكرون لقطاته الصحافية الناقدة، تحت عنوان «في عين العاصفة»، لصدام في غزوه الكارثي للكويت. كانت اللقطات أمضى وأقوى ما كتبته الصحافة العربية آنذاك. فعل القصيبي ذلك، وصدام في ذروة قوته وعدائه للحرية، وملاحقته للأحرار.

لا شك أن القصيبي شعر بمرارة الإخفاق، وبالأسف للمنافسة العربية له. لكن شعرت من لقائي وأحاديثي الهاتفية معه أنه يغالب كبرياءه. لم يوجه نقدا إلى مصر العزيزة على قلبه. بل لم ينحن القصيبي قط للحملات الصهيونية عليه. لم يتملق. كمرشح، قدم نفسه ملتزما بسياسة اليونسكو: حرية الثقافة واحترم التقاليد.

أين هذا من ذاك؟! من حسن حظ الرسام فاروق حسني أن لا منافس عربيا له. لكن لمجرد كونه عربيا، فقد تعرض وزير الثقافة المصري إلى حملة يهودية هستيرية كتلك التي تعرض لها القصيبي، قادتها إسرائيل ويهود الفن والثقافة. تعهد نيتنياهو أمام الرئيس مبارك، بوقف الحملة. لم يحدث ذلك. ما زالت الحملة مستمرة، على مصر (المعادية لحقوق الإنسان)، وعلى الوزير حسني (المعادي للثقافة اليهودية) الذي يريد إحراق الكتب الإسرائيلية.

الحملة مفهومة وبديهية. لكن الأمر الغريب الذي يدعو إلى الأسف والمرارة أن الوزير حسني حمل شلته «الفرنكفونية»، وطاف أوروبا ليقدم الاعتذارات، وليحبِّر المقالات المليئة بالتنازلات.

انقلب فجأة مؤيدا للتطبيع، مستعدا لنشر واستقبال كتب عاموس عوز ودافيد غروسمان. يجري هذا كله ضد مصر ومرشحها المسكين، فيما تحبط إسرائيل بالقوة المسلحة احتفال اليونسكو وعرب القدس بالمدينة الشهيدة عاصمة ثقافية. وتجرأت الشرطة على إهانة وضرب كبار المثقفين العالميين الذين جاءوا للمشاركة في المناسبة.

لست ضد تدويل وعولمة الرسام فاروق حسني. لست مع الإخوان والأصوليين الذين أمسكوا بلوحاته التجريدية بالمقلوب، وقالوا إنها تنطوي على «إبداعات» جنسية. إنصافا للرجل، أقول إن وزارة الثقافة هي آخر قلعة في مصر للثقافة الحرة. أعترف أيضا بقدرته الذكية على المناورة. فهو يطبق سياسة المراوحة الرسمية بين إرضاء الأصوليين، وصولا إلى تسليمهم الرقابة على الكتب الدينية، وردع الكتب والمجلات الأدبية والثقافية، وبين منح المثقفين والأدباء قدرا من حرية التعبير والنشر. ثم تقديم بعضهم كبش فداء، إذا ما اشتدت الحملة الأصولية على كتب ومجلات الوزارة.

غير أني آخذ على وزارة الثقافة المصرية في عهد الرسام حسني (هو وزير دائم منذ عام 1987) إخفاقها في استئناف إيصال وهج مصر الثقافي إلى العالم العربي، في ذروة الهجمة الأصولية على الحريات الثقافية العربية. كان في استطاعة الوزير حسني افتتاح مراكز ومعارض ثقافية وفنية في العواصم العربية. كنت أعتقد أنه قادر على إقناع رجال المال والأعمال الناشطين في دائرة السلطة، بتمويل هذا الجهد الثقافي. بدلا من ذلك، فقد باع الوزير الرسام «الميه في حارة السقايين». صرف جهده لتنشيط المراكز الثقافية المصرية في أوروبا، ربما بتأثير شلته «الفرنكفونية».

لست ضد ترشيح مصر لإدارة اليونسكو. حان الوقت لكي يكون هناك عربي على قمة هذه المنارة الثقافية. بل، أقدم من عندي مرشحا مصريا أوسع ثقافة، وأكفا إداريا، وأعمق عروبة. لعل الدكتور جابر عصفور المثقف الأكاديمي والإداري الكفء، الذي أدار «المجلس الأعلى للثقافة في مصر»، أحد المنائر الثقافية المصرية التي يمكن ترشيحها بجدية لشغل المنصب.

مشكلة جابر عصفور أنه لازم، سنوات، الوزير الرسام. المنصب الرفيع هو الذي قدم الوزير، وأجل الموظف المثقف. لا أملك مجالا واسعا لتقديم هذا المثقف الموسوعي لجمهور عربي مثقف، ربما لا يعرفه، على الرغم من إصداراته من كتب عدة في النقد الأدبي، وفي الدفاع عن حرية الثقافة وتعدديتها.

يكفي أن أقول، باختصار، إن الثقافة العربية، عند جابر عصفور لا تحتفي بالمستقبل ولا تفكر به. فهي مشغولة بأسئلة الماضي. لذلك كانت هذه الدهشة الصادمة للعرب إزاء الهزيمة العسكرية في النكبة والنكسة، وانهيار الشيوعية، وحادث 11 سبتمبر، ثم في غزو العراق.

ذلك لا يعني التقليل، عند جابر عصفور، من عظمة الماضي وتراثه، إنما هو يريد تصورا للمستقبل يأخذ من الماضي، ولا يخاف من التغيير في الحاضر والمستقبل. هذا هو السبيل عنده لانفتاح العرب على حرية الفكر والتعبير والقبول بالآخر، والتفاعل مع الثقافة الإنسانية، من دون انبهار بها أو عداء لها.

إذا لم يكن جابر عصفور، فلماذا لا يكون هناك مرشح خليجي آخر، أو مشرقي أو مغربي؟ كنت أظن تمَّام سلام مجرد سياسي لبناني مغرد خارج السرب، كما كان أبوه أحيانا. جاء وزير الثقافة اللبناني إلى باريس منذ أسابيع. تحدث بعمق في اليونسكو إلى المثقفين والصحافيين باللغات الثلاث: العربية. الإنجليزية. الفرنسية. كواحد من مثقفيها.

قد تكون شهادتي بالوزير تمام مجروحة. فأنا صديق لوالده الراحل الكبير صائب سلام. كنت أعتز بصداقته وأتوسل نصيحته. تمام سلام أرستقراطية لبنانية نشأت وبقيت في دارة شعبية، في صميم حي المصيطبة البيروتي السني. لعل هذه الازدواجية بين الثقافة والمحلية الشعبية تؤهله لمنصب لم يفكر في شغله، كما يفعل الآن الوزير الرسام فاروق حسني.

حظ تمام سلام من السياسة والسلطة قليل. فهو أقل اندماجا فيهما، من أبيه الذي شكل ست حكومات خلال عمل سياسي استغرق أكثر من نصف قرن. ربما طيبة المثقف تفرض عليه النأي والعزلة، في زمن يلعب المال السياسي الدور الكبير. وتمام سلام السياسي لا تستطيع أن تستأجره. ولا تستطيع أن تشتريه.