نصيحة إيرانية

TT

ليس أفضل من لبنان ساحة يتشابك فيها الشأن الخارجي بالداخلي ليحوّل الاستحقاقات السياسية العادية إلى قضايا معقدة تشغل القاصي والداني لحلحلتها، فيما مطلب اللبناني العادي لا يتجاوز تطلعه إلى تأمين لقمة عيشه والحصول على تيار كهربائي مستدام، وعلى حد أدنى من السلم الأهلي.

تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، في أعقاب الفوز الانتخابي الواضح الذي حققته قوى «14 آذار»، كان يفترض فيه أن يكون المناسبة المتاحة لتلبية المتطلبات المعيشية البديهية للبنانيين، فتخرج الحكومة الجديدة ببيان يؤكد العمل على تأمين قوت يومه ومتطلبات أمنه واحتياجات عيشه المرتاح ـ ولا نقول المريح ـ في مجتمع القرن الحادي والعشرين.. على أن يأتي تأكيد الثوابت الخارجية التي يفرضها واقعه العربي والشرق أوسطي في الدرجة الثانية من أولويات المرحلة.

إلا أن «ظل» الخارج لم يغِب عن حسابات تشكيل الحكومة، ربما لأن اللبناني يميل بطبعه إلى تحويل «الحبة» إلى «قبة» والالتهاء بكبائر الأمور ـ التي غالبا ما تبقى بلا حل ـ على حساب صغائرها الممكن حلها، فلا عجب أن تصبح «النسبية» ـ أو «المحاصصة» ـ داخل التشكيلة الحكومية الجديدة أهم من البرنامج السياسي للحكومة.

ولكن أن تدخل دولة إقليمية في حسابات «المحاصصة» الوزارية، فهذه سابقة لم يشهدها لبنان من قبل، علنا على الأقل، وقد تكون مؤشرا على ما يصح توقعه في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ الشرق الأوسط.

الدولة الإقليمية المعنية بشؤون المحاصصة في الحكومة اللبنانية هي جمهورية إيران الإسلامية، التي دعت النائب ميشال عون، عبر وكالة أنبائها الرسمية (في نشرتها باللغة الفارسية بتاريخ 29/06/09) إلى عدم «المبالغة» في سعيه لتحقيق طموحاته السياسية (على صعيد عدد الحقائب الوزارية التي يطالب بها)، وبالتالي إبقاء تحركاته «منسجمة» مع مصالح المقاومة الإسلامية.

لافت أن تكتشف وكالة الأنباء الإيرانية، بعد ما يمكن تسميته بانتخابات «اتفاق الدوحة»، غلواء «طموح» ـ وربما «جموح» ـ العماد عون السياسي، ولكن الأكثر دلالة في هذا السياق أن تعتبره طموحا يتعارض مع مصالح المقاومة الإسلامية، أي حزب الله اللبناني، بما يوحي بتشكيك طهران في تطابق طموحات عون السياسية (الرئاسة) مع أولوياتها في لبنان (المقاومة).

لو صدرت «نصيحة» من هذا النوع لإيران نفسها من جهة رسمية أميركية لكانت طهران أقامت الدنيا ولم تقعدها على «التدخل» الأميركي في شؤونها.

ولكن في لبنان يجوز لإيران ما لا يجوز لغيرها، وحرصها على إعطاء حزب الله وحلفائه المباشرين الحصة الأوفر في الحقائب الوزارية لا يخرج عن محاولة إيران وضع السيطرة على «الثلث المعطل» في حكومة الحريري المقبلة بيد النظام الإيراني.

توقيت طرح طهران لهذه الملاحظة ـ الشرط في وقت يتكرس فيه الشرخ «العائلي» داخل نظامها الإسلامي، يوحي بأن النظام الإيراني يتطلع إلى تسجيل «نصر» خارجي يؤكد استمراره لاعبا إقليميا رئيسيا في المنطقة. وأهمية تأكيد هذا الدور في لبنان تحديدا، يبرزه التنسيق السعودي ـ السوري المتنامي حيال لبنان، وأحدث مظاهره كانت لقاء مستشار العاهل السعودي، الأمير عبد العزيز بن عبد الله بالرئيس بشار الأسد الاثنين الماضي.

إلا أن ملاحظة الوكالة الإيرانية الرسمية تطرح جملة تساؤلات حيال علاقة المدى البعيد بين حزب الله والتيار العوني من جهة، والتيار العوني وإيران من جهة أخرى، خصوصا أنها تأتي في أعقاب انتخابات كانت طهران مقتنعة بأنها ستمكن حزب الله، بتعاونه مع التيار العوني، من التحول إلى أكثرية حاكمة في لبنان (الأمر الذي بشّر به وزير خارجية إيران، منوشهر متقي، المسؤولين الفرنسيين في زيارته الأخيرة لباريس قبل الانتخابات اللبنانية بقليل).

وقد يكون التساؤل الثاني: هل بدأ يشعر حزب الله بأن تحالفه مع ميشال عون أعطى التيار العوني مكاسب تفوق بكثير ما جناه هو من هذا التحالف، بعد أن تبين أن الصوت الشيعي ضمن نجاح لوائح عون في دوائر جبيل وبعبدا وجزين، فيما الصوت الماروني لم يكن مؤثرا في معركة حزب الله في الجنوب والبقاع؟