كيف يكون العالم بدون «غلوب»؟

TT

رغم احتدام التنافس الذي يشبه كثيرا نوعية المنافسة ما بين فريقي ريد سوكس، ويانكيز لرياضة البيسبول، ارتاح موظفو بوسطن غلوب كثيرا عام 1993، وذلك عندما بيعت الصحيفة إلى شركة نيويورك تايمز، بمبلغ مذهل قوامه 1.1 مليار دولار، وإذا ما استدعت الضرورة إنهاء ملكية العائلة المحلية إلى الصحيفة، فإن البقاء تحت ظل جناح أحد أكبر الصحف العالمية بدا أنه البديل الأفضل. وإذا ما بات واضحا أن صحيفة «نيويورك تايمز» على استعداد لدفع الكثير من الأموال، فيجب أن تكون جادة حيال وضع الجودة نصب عينيها، وأن تكون هي الهدف المنشود.

لقد كان ذلك في الماضي، أما الآن، وبعد سلسلة كبيرة من عمليات التخفيض وتسريح العمالة، شرعت صحيفة «نيويورك تايمز» في ابتزاز 20 مليون دولار أخرى على سبيل المدخرات من نقابات صحيفة بوسطن ـ بالإضافة إلى تهديدها بإغلاق الصحيفة ما لم يتم الوفاء تماما بهذا المطلب. إن اقتصاديي صناعتنا هذه من الغلاظ عديمي الرحمة، ومع ذلك فإنه من المرعب أن نشهد ما يبدو على أنه عمل وحشي.

وحتى نضع الأمور في نصابها، فقد قيل إن غلوب تمضي سريعا تجاه خسارة حوالي 85 مليون دولار هذا العام. وبالكاد يمكن لشركة نيويورك تايمز أن تبتلع خسارة بهذا الحجم الضخم، وذلك على أساس أن الصحيفة الرئيسية التابعة للشركة تخوض من جانبها حربا خاصة بها ضد الزيادة المتصاعدة في الحبر الأحمر.

ويمكن أن يرد المناصرون لغلوب بواسطة الاستشهاد بقائمة طويلة من الاتجاهات موضع الشك ـ دون مبالغة ـ لدى إدارة شركة تايمز، والمتمثلة في: إنفاق مئات ملايين الدولارات لإعادة شراء أسهم الشركة، وتراكم أكثر من مليار دولار على هيئة ديون، وبناء ناطحة سحاب «تذكارية» لتكون مقرا جديدا للشركة بالقرب من ميدان تايمز، واقتراض 250 مليون من الملياردير المكسيكي كارلوس سليم بفائدة تعادل 14%.

وقد كان ذلك ـ على وجه الخصوص ـ من خلال إثارة من يحبون غلوب ـ وهي الصحيفة الكبرى في نيو إنغلاند ـ حيث أبقت نيويورك تايمز على قدرتها القومية والدولية فيما يتعلق بجمع المعلومات الإخبارية، في الوقت الذي استمرت فيه صحيفة غلوب في القيام بتخفيضات حادة في فريق العمل الخاص بها، وفي الموارد الأخرى. وكتبت إيلين ماك نامارا ـ كاتبة العمود الصحافي في غلوب والحائزة على جائزة بوليتزر، إلا أنها تركت الصحيفة حاليا وتدرّس في جامعة برانديز ـ أن هذا هو ديدن تايمز في معاملة صحيفة غلوب: «لقد قادتها خارج المسار طمعا في الربح خلال الازدهار في فترة التسعينات، ثم نهبتها بعد ذلك في وقت العسرة. لقد أغلقت جميع مكاتبها الخارجية، وقللت من قدر تغطيتها لكل شيء بدءا من الفنون الجميلة إلى العلوم الواقعية».

ويتجلى لي أن صحيفة غلوب لم تتفهم مطلقا وفعليا غلوب أو سوقها، كما بات واضحا أيضا أن الإدارة تحابي أحد إصدارات الشركة عالمية التصنيف أكثر من الأخرى. ومع ذلك، بات واضحا أيضا أن ما من أحد من صفوة الإداريين داخل هذا البرج الأنيق الجديد المستقر في مانهاتن يشعر بالابتهاج من التهديد بإسكات أحد أكثر الأصوات الصحافية أهمية بالبلاد. لقد نالت غلوب 20 جائزة بوليتزر من قبل على مدار تاريخها ـ 8 منها منذ أن اشترت شركة تايمز الصحيفة.

وقد تكون إدارة تايمز خرقاء، أو حمقاء، أو غير عادلة بعض الشيء في معاملتها لغلوب، إلا أن «الحكام المطلقين» لم يتسببوا في الأزمة التي عمت الخراب على الصناعة الصحافية جمعاء. وبإيجاز: فقد انخفضت عملية تداول الصحف ببطء، فيما تهاوى عائد الإعلان كثيرا، كما لم يثمر الإنترنت بعد عن نموذج عمل يمكنه دعم غرف الأخبار المكتظة بأطقم العمل.

لقد عاصرنا واجتزنا فترات استسلمت فيها صحف إلى الوقائع الاقتصادية الجديدة، ففي يوم من الأيام، كان لدى أغلب المدن الأميركية ما بين ثلاث أو أربع أو أكثر من الصحف ذات الإصدارات اليومية المتنافسة. أما الآن، فقد انخفضت هذه النسبة إلى واحدة فقط. إلا أن هذه الفترات التي تراجعت فيها الصحف كانت بمثابة مناورات لبقاء الأفضل والأكفأ. والاختلاف حاليا أن الصحف تواجه مشكلة لا تتعلق من قريب أو بعيد بمدى كفاءتها.

ومن المستحيل تقريبا التفكير في بوسطن دون غلوب. فمع وجود جامعاتها العريقة ومؤسساتها الثقافية، تنظر المدينة إلى نفسها على أنها أثينا العصر الحديث، بل إنها محور الكون. وكيف يمكن لبوسطن أن تحيا دون صحيفة غلوب الأرستقراطية واسعة العلوم والمعرفة، والتي غالبا ما تبدو وكأنها تنظر من برج عاجي إلى باقي العالم؟ أو بدون بوسطن هيرالد، والتي تنقل مدى إدراك حساسية المناطق الأقل سحرا بالمدينة، والتي تشهد في الوقت الحالي أيضا تضاؤلا في عوائدها وتقلصا في مواردها؟

ولا أعتقد أن ذلك بمثابة إعلان وفاة للصحف، حتى ذات الطابع القديم منها. وأعتقد انه في يوم من الأيام ـ بطريقة أو بأخرى ـ سوف تجني الصحف ما يكفي من العوائد عبر التوزيع الإلكتروني، لكي تدفع في مقابل الصحافة التي تحتاجها ديمقراطيتنا. وإذا كان لدي حل واضح لهذه المشكلة، لكنت على الفور قد أعلنت عنه جهارا، بعد أن أسجل براءته بالطبع باسمي.

إن كل ما أعرفه هو أن الإدارة الذكية الحصيفة يمكنها شراء وقت ثمين لتشكيل هذا الحل. فالتهديد بالعقاب لا يساعد.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»