روتشيلد الخنزير أم سقراط الفقير؟!

TT

هل الفقر والظلم والقهر هي المرافئ الطبيعية للعبقرية، أي أن الفنان لا يولد إلا في هذه البيئة الخانقة؟ يبدو أن هذا صحيح إلى حد كبير.

فالفن نبات أو حيوان لا ينتعش إلا في ظروف شاقة. فالأدب الروسي العظيم كله ظهر أمام القيصرية. تولستوي وجو جول وجوركي وتشيخوف ودستوفيسكي، بينما لم يظهر في ظل الشيوعية إلا الصحفيون.. الظالمون والزمارون وحملة القمائم في كل العصور. وللأمانة فقد ظهر أديبان؛ أحدهما أرغمته الدولة على رفض جائزة نوبل لأنه قد حصل عليها بسبب هجومه على الشيوعية في روايته «د. جيفاجو» وهو الأديب باسترناك، والأديب الثاني هو شولوخوف عن رواية «نهر الدون الهادئ». وبعد فوزه بالجائزة أعلن أحد النقاد أن هذه الرواية مسروقة من أديب ناشئ مغمور!

وإن كان هناك أدباء عظماء كانوا أغنياء: تولستوي وجيته وفلوبير وأمير الشعراء شوقي..

ويقال أيضا ـ وهو تشبيه قبيح ـ إن الفنان مثل الخنزير لا بد من ضربه كثيرا حتى يبعدوا الشحم عن اللحم. ويقال إن الفنان أيضا مثل حيوان اللؤلؤ.. ينعزل بعيدا عن الشاطئ وفى مياه راكدة فتتسلل ذرة من الرمال تلتصق بلحمه فيبكي ويفرز مادة اللؤلؤ ليبعد الذرة عن لحمه عاما بعد عام..

فاللؤلؤ هو دموع هذا الفنان.

ويقال أيضا إن الموهبة مثل «وهج المستنقعات» ـ وهو تعبير خشن ـ فنلاحظ أن المياه الراكدة الآسنة ينبعث منها بخار كالضوء أو ضوء كالبخار أزرق اللون.. من النباتات المتحللة. وهذا ما يبحث عنه رواد الفضاء عندما يبحثون عن الماء في الكواكب ـ كالمريخ مثلا ـ فهذا الوهج دليل على وجود الماء.

ويبدو أن الثراء ليس هو المنبع الوحيد لظهور الموهبة ـ لا بد من أن يقاوم الفنان ويصطلي ويقول: آه.. ومن ملايين الآهات تتولد سيمفونيات الإبداع.. فالشمس التي هي مصدر الحياة ليست فيها حياة.. وإنما الحياة هناك بعيدا في الأرض.. في الوحل الممزوج والعرق والدموع!

ويقال إن قارون كان غنيا لدرجة أن مفاتيح خزائنه كانت تنوء بها أربعون من الإبل.. ثم من هو قارون بين العظماء؟ وقديما سألوا أديبا: تحب أن تكون روتشيلد الخنزير أم سقراط الفقير؟ فقال بعد تفكير طويل طويل: أعيش فيلسوفا وأموت خنزيرا!

ـ هيهات!