.. والمهراجا بفيله الأبيض ميعرفهوش

TT

في مقاله «معرفهوش»، تناول أخصائي العلوم السياسية الأمريكي، المصري المولد، الدكتور مأمون فندي تفويت مقدمي البرامج العرب فرص تقصي خلفية الأحداث، واختبار مصداقية الضيف عندما يناقض كلامه الواقع، أو يستهين بذكاء المشاهدين.

أتفق مع فندي بأن الضعف المهني لمقدمي البرامج يفقدهم الثقة بالنفس، فلا يجرؤون على مطالبة الضيف بالأدلة عندما تناقض مقولاته السياق التاريخي. ويزداد الأمر سوءا إذا كان مقدم البرنامج صغير السن شب على إعلام أضاف هالة من القدسية الكهنوتية على ضيف يحكي عن أحداث لم يعاصرها المذيع، فيعتبر «تحدي» مصداقية الضيف ضربا من الكفر.

اختار فندي نموذج الأستاذ محمد حسنين هيكل وزير الإعلام والبروباغندا في عهد الديكتاتورية الناصرية والذي بايعه الناصريون والقوميون العرب كاهنا وحيدا في معبد إعلامهم عندما «فوت» المذيع الشاب فرصة التوسع في استكشاف مناقضة الأميرة فريال لحكايات الأستاذ هيكل بأنه على اتصال مستمر بأسرة أبيها المغفور له فاروق الأول ملك مصر والسودان قائلة «معرفهوش».

وأضيف على اكتشاف فندي، أن وقوع مقدمي البرامج أسرى آيديولوجية عصر معين يجعلهم مشاركين، عمدا أو غفلا، في مؤامرة تضليل المشاهد.

وأذكر حلقة من برنامج استضاف فيه المذيع الشاب ضابطا سابقا في الجيش المصري عمل في سكرتارية القصر الجمهوري عام 1970. وحسب معلوماتي (أثناء بحثي الموثق عن علاقة المخابرات الناصرية بالبعث العراقي لكتابي (Unholy Babylon: The Secrete History of Saddam’s war، الصادر في يناير 1991 عن دار سانت مارتين برس ـ نيويورك) كان ضابطا في سلاح الإشارة أيام وحدة مصر وسورية، وأرسل من دمشق لبغداد في الأيام الأولى من انقلاب عبد الكريم قاسم الدموي عام 1958 حاملا جهازا روسيا لتشفير المكالمات لحمايتها من التنصت.

وكان الواضح أن هدف البرنامج تمجيد الديكتاتور صدام حسين، الذي قبض عليه قبل تصوير الحلقة بقليل فاكتفى مقدم البرنامج بدور المطيباتي بدلا من استكشاف مدى مصداقية الضيف الذي وصلت مبالغاته في دوره في السياسة العراقية (بأوامر عبد الناصر) حد الاستخفاف المهين بعقول المشاهدين.

ادعى الضيف أنه كان قائد أنظمة الدفاع الجوي للقاهرة، وبالتالي لا يمكن أن تقل رتبته العسكرية عن لواء، أي تجاوز الخمسين من العمر في 1958، مما يعني أن عمره وقت المقابلة 96 عاما. فإما أن المذيع «فوتها» لعجزه عن حساب السنين، أو تعمده مناقضة ضيف مصداقيته ضرورية لبروباغندا تمجيد صدام.

أما ظاهرة إصابة صحفي بجنون العظمة بسبب هالة ضربها الإعلام اليساري حوله فموجودة عندنا في فليت ستريت، رغم حرفية مقدمي البرامج الإنجليز، فهم ككلاب الصيد اليقظة تشم رائحة التفسيرات «الهيكلية» للتاريخ وليسوا كمذيعين عرب «يختشون على دمهم» فلا يفندون مقولات الأستاذ.

أما العاملون على ديسك الصحفsubeditors ، والمقابل الأقرب «سكرتارية التحرير»، فليسوا في شجاعة مقدمي البرامج، لأن اقتصاديات الصحافة جعلت معظمهم يؤجرون «باليومية»، وليسوا موظفين ثابتين. ولذا لا يغامرون بقطع رزقهم أمام تهديدات مراسل ضرب الإعلام اليساري حوله هالة هيكلية كالمتحدث الوحيد باسم التيارات التقدمية ضد الهيمنة الأمريكية، فيفوتون ما يجدونه في تقاريره من تناقضات أو مبالغات خيال هوليوودي خصب.

الطريف أن كاتبا حور الصحفيون الإنجليز اسمه إلى كلمة دخلت القاموس الصحفي لتعني المزيج بين المبالغة والخيال الخصب, من أشد المعجبين بالأستاذ هيكل، بل يكاد يكون مصدره الوحيد في مصر.

وكل تقارير الكاتب تملؤها جمل «أنا صنعت، وأنا قابلت» رغم أن أسطوات الصحافة العظام حذرونا من الخلط بين الرأي والخبر، ومن أن يصبح المراسل نفسه خبرا صحفيا.

في مسرحية «أصل وصورة» بطولة المرحوم أمين الهنيدي ومحمد عوض سهر الصحفي في كباريه ففاتته تغطية ما طلبه رئيس التحرير من مقابلة مع مهراجا هندي. وبمساعدة الزملاء والكاس فبرك مزاج الصحفي الموضوع واصفا وصول المهراجا للقاهرة راكبا فيلا أبيض، ولم يعلم الصحفي أن المهراجا كان ألغى زيارته لمصر.

أذكر احتجاجا ديبلوماسيا مصريا على ما نشره زميلنا البريطاني المذكور من أن زعيم جماعة إرهابية خصه وحده بحديث طويل مفصل من قفص الاتهام أثناء محاكمته أمام محكمة عسكرية في القاهرة؛ وكنت وقتها أعمل بالإندبندنت، فاضطررت للدفاع عن عشيرتي الصحفية رغم وجاهة سؤال الديبلوماسي «هل يمكن إجراء مثل هذه المقابلة في أي محكمة في العالم؟» أما رسالة زميلنا عن مصرع رفيق الحريري عام 2005 التي افتتحها بـ«بينما هرول الجميع هاربين من مكان الانفجار، اندفعت أنا نحو السيارة التي التحفتها ألسنة اللهب..» فحالة تستحق دراسة سيكولوجية لتفويت سكرتارية التحرير للعبارة خاصة أن المراسل يصف كيف سمع الانفجار من شقته فأطل من شرفة العمارة التي يسكن بها.. إلخ، فخريطة المكان بثت على الإنترنت، وبحسبة الوقت الذي يستغرق وصول الأسانسير، ثم النزول للشارع ثم الوصول للسيارة، يتضح استحالة سبقه الشرطة التي ضربت شريطا عازلا حول مكان الانفجار.

رسالته من الجزائر قبل عشر سنوات تتفوق على مسرحية الهنيدي في كلاسيكيتها الهيكلية. قال إن زعيم جبهة الإنقاذ الإسلامية الإرهابية جاءه متخفيا واطمأن لحرفيته فقابله في الفندق. وأضاف أنه نصح الصحفي سكوت وايت وزميله المصور على مائدة الإفطار بعدم الذهاب للقصبة. (والصحفيون العرب الذين عملوا في محطة MBC ، يعرفون وايت الذي عمل بها ما بين 1991 و1994، ويمكنهم).

وتعرض وايت والمصور أوليفيه لهجوم في القصبة، وقتل المصور، بينما استقرت الرصاصة في عظمة أذن وايت مما أنقذ حياته.

عاتبني وايت عندما زرته في المستشفى بعدها، قائلا: «أنتم الصحفيون البريطانيون أنذال، فلم تهتموا بي لأنني أجنبي من نيوزيلندا، وأنتم سجناء غرور فليت ستريت».

وأجبته بأننا نشرنا حكايته بقلم زميلنا الذي قابله على الإفطار ونصحه بعدم الذهاب للقصبة..

فقاطعني وايت قائلا: «ومن هو هذا الشخص هذا بحق الجحيم؟»

وأضاف بثقة فريالية أنه «ميعرفهوش»، مؤكدا أنه وأوليفيه لم يتناولا الفطور في الفندق يومها إذ غادرا مبكرا، وأبقيا أمر التصوير في القصبة سرا خشية أن يمنعهم البوليس الجزائري من الذهاب.

وختاما أقول للدكتور فندي «ما فيش حد أحسن من حد»، فإذا كان في الإعلام العربي فبركة، ففي الإنجليزي «فسكرة».