مؤتمر الإسلام في أوروبا

TT

على مدار يومين متتاليين انعقد في الدار البيضاء مؤتمر دولي عن موضوع الإسلام في أوروبا بكل همومه وقضاياه. وقد نظم المؤتمر مجلس الجالية المغربية بالخارج الذي يترأسه إدريس اليازمي ويشرف عليه الكاتب العام عبد الله بوصوف. وهو المجلس الذي تشكل عام 2007 بقرار صادر عن الملك محمد السادس بغية الاهتمام بالدياسبورة المغربية المنتشرة في شتى أنحاء العالم والتي قد تتجاوز الخمسة ملايين شخص. ومعلوم أن العاهل المغربي وضع هذه الجالية الكبيرة في مركز اهتماماته من أجل مساعدتها والنهوض بأوضاعها وربطها بالوطن الغالي. وقد تجلى هذا الاهتمام بتشكيل وزارة خاصة بالجالية وجعلها منتدبة لدى الوزير الأول ومرتبطة به مباشرة. وهي وزارة ناشطة جدا على كافة الأصعدة. ثم أسس بعدئذ مجلس الجالية المغربية بالخارج المذكور آنفا. وقد جعل هذا المجلس من الإشكالية الدينية إحدى أولوياته من أجل تنوير الجالية المتواجدة في دول الغرب في معظمها. ومعلوم للقاصي والداني أنها تعرضت للتمييز والاضطهاد وبخاصة بعد ضربة 11 سبتمبر. وأصبحت مشبوهة في نظر الرأي العام الأوروبي والأميركي بسبب أقلية قليلة من المتطرفين اللامسؤولين. وهكذا دفعت الجالية ثمنا باهظا لشيء لا علاقة لها به من قريب أو من بعيد. وبالتالي فتنبغي مساعدتها عن طريق تنويرها وتثقيفها من أجل ربطها بالوطن الأم من جهة ودمجها بشكل صحيح في بلاد الاغتراب من جهة أخرى. وهكذا تصبح جسرا رائعا وضروريا بين كلتا الضفتين كما يقول جاك بيرك. ولهذا السبب فإن مجلس الجالية المغربية في الخارج شكل فريق عمل لدراسة مسألة الشعائر والتربية الدينية. فبما أن الإسلام هو آخر الأديان التي وفدت إلى أوروبا فإنه لا يزال بحاجة إلى نيل حقوقه المشروعة من حيث بناء المساجد والتأطير الفكري وبناء المرجعيات والمؤسسات الخاصة به أسوة له ببقية الأديان الراسخة.

لكن المجلس ينبهنا إلى الحقيقة التالية لكي ننطلق منها: وهي أنه إذا كان الإسلام هو دين المهاجرين المؤقتين الذين سيعودون يوما ما إلى بلدانهم فإنه أصبح الآن دين المواطنين الأوروبيين المقيمين باستمرار هم وعائلاتهم. لقد أصبح جزءا لا يتجزأ من المشهد الأوروبي في فرنسا وانكلترا وألمانيا وبلجيكا وهولندا وإيطاليا وإسبانيا إلخ. وأصبحت تجد نوابا ووزراء مغاربة وعربا ومسلمين في حكومات هذه البلدان بالإضافة إلى آلاف الكوادر من مهندسين وأطباء وأساتذة جامعيين وبالطبع عشرات الآلاف من العمال المحترفين. كل هؤلاء يشكلون حظا لبلدانهم وبلدان أوروبا في آن معا. نعم إن الإسلام حظ لأوروبا بطاقاته المبدعة الخلاقة التي تساهم في تنميتها وتطويرها ثم بالأخص عن طريق قيمه الروحية والأخلاقية العليا التي قد تساعدها على حل مشاكلها النفسية والخروج من ماديتها الإلحادية إن لم نقل النسبوية والعدمية. ولكن أوروبا العلمانية المستنيرة المتحررة هي أيضا حظ للإسلام بمعنى أنها تساعده على التحرر من الانغلاق اللاهوتي والتخلص من تصورات القرون الوسطى الظلامية.

نعم إن الإسلام يسائل أوروبا ويستجوبها، ولكن أوروبا تسائل أيضا الإسلام وتستجوبه. وهناك فائدة للجميع عن طريق هذا التفاعل المتبادل والمثمر بين كلا الطرفين. فالمسلمون الأوروبيون يعيشون لأول مرة داخل سياق لا إسلامي بل وحتى لا ديني: إنه سياق العلمانية الثقافية المهيمنة على أوروبا. وهذا يطرح عليهم مشاكل جديدة ويدفعهم إلى تطوير فهمهم لدينهم ومعتقدهم باتجاه المزيد من العقلنة والأنسنة والتأقلم مع الحداثة الكونية.

هذا وقد تركزت أعمال المؤتمر على المحاور التالية:

أولا: جغرافية الإسلام في أوروبا.

ثانيا: الإسلام الأوروبي وإشكالية المرجعية.

اليوم الأول من المؤتمر كرس في جلساته الصباحية لدراسة المحور الأول الذي تشعب إلى النقاط الثلاث التالية:

ـ الحقل الديني في أوروبا: مكوناته وتطوراته

ـ لمحة تاريخية عن الإسلام في أوروبا والطفرات التي شهدها مؤخرا

ـ تيارات الإسلام في أوروبا

وكرس في جلساته المسائية لدراسة المحور الثاني الذي تشعب إلى أربع نقاط هي التالية:

ـ أسس ومصادر استلهام المسلمين في أوروبا

ـ المسلمون في أوروبا على محك العلمانية

ـ التكوين الديني: الحالة الراهنة والآفاق

ـ آفاق الإسلام الأوروبي أو منظوراته المستقبلية

ثم خصص يوم لتنظيم طاولة مستديرة حول الموضوع التالي: المرجعية والممارسات لدى النساء والشباب المسلمين في أوروبا.

افتتح المؤتمر الأستاذ عبد الله بوصوف بمحاضرة عصماء رسمت الخطوط العريضة لإسلام التنوير في أوروبا، الإسلام الجدير بعصره الذهبي الأول وإشعاعه الحضاري. واختتمه الأستاذ إدريس اليازمي بمحاضرة أخرى لا تقل أهمية. وبينهما استمعنا إلى عشرات المداخلات القيمة للباحثين المسلمين والأوروبيين. وقد ركز الأستاذ اليازمي على ضرورة المقاربة العقلانية للمشاكل التي يطرحها وجود الإسلام والمسلمين في أوروبا. وطالب الدول الأوروبية فقط بتطبيق قوانينها على المسلمين كما تطبقها على غيرهم من أتباع الأديان الأخرى لا أكثر ولا أقل. فنحن نريد المساواة فقط. وهي ليست متوافرة حاليا. كما وطالب الباحثين والعلماء المسلمين بتجديد اللاهوت الإسلامي لكي يتماشى مع الحداثة وحقوق الإنسان. وأخيرا فإن هذا المؤتمر يمثل بدون شك خطوة هامة في اتجاه فتح الانسداد التاريخي وطرح الأسئلة الممنوعة. كما أنه شكل خطوة أساسية على طريق حوار الأديان والحضارات والثقافات.