هوامش على دفتر مروة الشربيني؟!

TT

الأمر هذه المرة عندما قتلت السيدة المصرية مروة الشربيني في واحدة من محاكم مدينة درسدن الألمانية لا يقل خطورة عما حدث أثناء أزمة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم والتي نشرت في صحيفة دنمركية وولدت سلسلة من التفاعلات كانت كلها مؤشرا على نوعية الأزمات الجديدة التي سوف تواجهها الإنسانية في الألفية الثالثة بعد الميلاد حيث تقدمت على كل الأسباب ما هو ثقافي وحضاري ويلتصق بالهوية والذاتية الخاصة بشعوب وأمم العالم. في هذه الأزمات لم تعد المسألة خاصة بمناطق النفوذ التي تتصارع عليها دول وإمبراطوريات لكي تخرج منها الثروات والمواد الأولية كما حدث خلال القرن التاسع عشر، ولا كانت صراعا إيديولوجيا حول كيفية إدارة العالم وتوزيع الثروة فيه والمآل الذي يذهب إليه البشر كما جرى خلال القرن العشرين بين الكتلتين السوفيتية والغربية. المسـألة الآن باتت عند خطوط تماس وتلاق وعناق بين الحضارات والثقافات حدثت بفعل وسائل الاتصالات وطرق السفر والترحال السريعة، ولكن هذه الحضارات والثقافات ذاتها نبتت من جوهر التميز والخلاف وتعريف الآخر بل والعداء له حتى بات التناقض واحدا من مسببات الوجود. في الماضي كان ممكنا حل المعضلة بالانفصال والبعد والغربة، أما الآن أصبح كل ذلك مستحيلا لأن أحدا في الدنيا لا يستطيع البعد عن الآخرين.

جاء واحد من حلول المعضلة ذات يوم عندما كنت زائرا لمدينة برلين الألمانية وكان السائق في انتظاره يقرأ كتابا عرفت فيما بعد أنه لواحد من كبار الفلاسفة وكان ذلك فاتحة للحديث. ومن بين ما أثير كان موقف هذا السائق المثقف من الأقلية التركية الواسعة الانتشار في ألمانيا كلها ومن بينها العاصمة حيث لفت النظر إلى أن الأتراك ليس فقط هم الذين قاموا ببناء ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية بجوار الألمان، وإنما لأنهم يعطون ألمانيا نوعا من التنوع في الطعم والألوان والعادات والتقاليد والموسيقى تجعل لألمانيا كلها شكلا ومعنى أكثر ثراء وجمالا مما لو كانت بدونهم. كان الإيمان بالتنوع إذن هو الحل، ولكن قاتل مروة الشربيني في ساحة المحكمة لم يكن من المؤمنين بهذا الحل فضلا عن هذه الطريقة في التفكير.

واقعة القتل وتفاصيلها وما جرى فيها مروعة بكل المقاييس، فأن يكون أصل المشكلة احتجاجا على الحجاب في واحدة من الحدائق العامة دفع مروة الشربيني إلى الشكوى في المحكمة فتحصل على حكم لصالحها يجعل المتهم يقتلها بسكين، ويعتدي على زوجها الذي حاول جاهدا أن يدافع عنها، لكي تنتهي الواقعة بقتيلة وإصابات بالغة بزوجها كانت نتيجة سكين وطلقة رصاص، وطفل يتيم لم يكن يفهم ماذا يجري أمام أعينه البريئة منذ كان يتأرجح على أرجوحة في حديقة عامة. وبالتأكيد لم يكن هناك سبب للقتل سوى الكراهية لثقافة أخرى وشعور بخوف وتهديد من حضارة مختلفة، وهي حالة قد تكون فردية أو مشتركة بين جماعة من الناس. ومنذ أسابيع قليلة انفجرت قنبلة بدائية في ميدان الحسين في قلب القاهرة لكي تقتل سائحة فرنسية، ووضعت قنبلة أخرى أمام كنيسة لكي تقتل مختلفين في الدين حتى ولو كانوا داخل حضارة واحدة.

ولكن ما جرى بعد القتل كان مفجرا لما هو أكبر، ومع طريقة إرسال الجثمان واستقباله في مصر، وبعد ذلك وقائع الدفن والعزاء كانت سبيلا لتفجير مشاعر سرعان ما خلقت مواجهة بين ثقافات وحضارات. في البداية تلقيت الكثير من التعزية من أصدقاء في أوروبا والولايات المتحدة حيث كان التأكيد ليس على جنون القاتل وإنما على وجود جماعات التعصب والرفض للآخر والتي تذخر بها المجتمعات الغربية. ولكن سرعان ما جاءت رسائل أخرى وجدت أن الواقعة قد خلقت تيارا عارما من الكراهية للآخر يمكنها أن تسبب كما حدث من قبل حالات قتل مروعة تجاه الأجانب والغربيين منهم خاصة. وفي بعض الأحيان فنحن، أو بعضنا، ينسى أن كل ما يكتب الآن يترجم وينشر، وكل ما يقال يجد له صدى في أنحاء المعمورة، وهكذا فإن كل من نعوا مروة الشربيني قاموا بمزايدة كبرى حول كراهية الغرب للعرب والمسلمين، وكان هناك من قال إن الغرب لن يقبلنا قط، وأنه سوف يناصبنا العداء إلى يوم الدين. وكأن ذلك لم يكن فيه الكفاية للشحن المعنوي حتى جرى اتهام «الطابور الخامس» الموالي للغرب بأنه السبب في قتل مروة الشربيني، لأنه كان دائما يغذي فكرة التفاعل والتلاقي مع الغرب. وهكذا أصبح لدينا في مصر على الأقل نوعان من القتلة المحتملين: القادمون من الغرب، وهؤلاء المصريون الذين لسبب أو لآخر كانت لديهم حالة من التعاطف مع مفاهيم غربية مثل الحداثة والمجتمع المدني. وكانت القاعدة الذهبية هي أن مقتل مروة الشربيني هو رفض من الغرب لنا، ومن ثم علينا أن نرفضه، كما أن واقعة القتل كانت من أجل الحجاب الذي هو رمز إسلامي، ومن ثم فإن علينا أن نرفض كل الرموز الغربية.

المعضلة في المسألة هي أن كل ذلك مستحيل، فبين ثنايا الواقعة تتبدى حقائق ومظاهر وأرقام لا يمكن تجاهلها. أولها أن هناك ملايين من العرب والمسلمين باتوا يسكنون أوروبا وشمال أميركا، وكان من أسباب ذلك الفقر في بلادنا، وغياب الحريات العامة والمساواة بين البشر، وفي أحيان غير قليلة الاضطهاد الديني أو المذهبي. وثانيها أن لدينا مئات الألوف من الدارسين الذين يتعلمون حيث يوجد العلم وأول أبجديات المعرفة في مجالات متقدمة، وكانت مروة الشربيني واحدة منهم، فقدناها، ولا يمكن معها أن نفقد كل الآخرين. وثالثها أن الصلاة الأولى على جثمان الفقيدة جرت في مسجد داخل مدينة درسدن، وحينما نقلت العدسات التلفزيونية الواقعة بدا وكأنها تجري في واحد من مساجد القاهرة. كان الإسلام والحضارة الإسلامية قد وصلا إلى قلب أوروبا، وبات على أوروبا أن تعتبرهما واحدة من مكوناتها، كما بات على الحضارة الإسلامية أن تتعلم كيف تتعايش مع الحضارة الأوروبية وكيف تحمي نفسها من العناصر المتطرفة فيها من خلال الالتحام بأنبل قيمها.

الحادثة كما قلنا مروعة بلا شك، وهي مدانة وفق كل المقاييس، ولكن مروة الباحثة العلمية سوف تكون قد قتلت مرتين إذا ما تحولت حادثة قتلها إلى صراع مر بين الحضارات؛ مرة لأنها قتلت بيد آثمة، ومرة لأن قتلها يمكن أن ينجم عنه حالة من الشحن المعنوي الذي يؤدي إلى قتل آخرين، وفصم علاقات ما كان يجب أن تنفصم. ولكن الحادثة يمكنها أن تكون نقطة بداية لأمر آخر لا يضيع دماء مروة هدرا، هذا الأمر هو خلق جبهات عربية أوروبية، وإسلامية مع كل الديانات الأخرى، لكي ترفض التعصب والتشدد والغلو والتمييز بين البشر على الناحيتين. وهي يمكن أن تكون درسا لرجال الإعلام، فمع إدانة الحدث، والعمل على أن يجني القاتل جزاء عمله، فإن القضية لا ينبغي أن تتحول إلى حالة من طلب الانتقام، والسعي نحو الانفصام والفرقة لأن ذلك سوف يكون مستحيلا وإلا حكمنا على مجتمعاتنا بالتخلف إلى الأبد.

ما نقوله هنا أننا والأوروبيون في مركب واحدة، وعندما عطست أميركا والدول الأوروبية من ورائها نتيجة الأزمة الاقتصادية كانت النتائج لدينا ممتدة من العراق إلى المغرب، ومن يريد أن يرى الدرس ربما عليه زيارة دبي التي صعدت عندما كان الغرب صاعدا وهبطت عندما هبط. وهي مركب ليست اقتصادية فقط، وإنما هي في جوهرها بحث عما هو أصيل ومشترك في القيم الإنسانية من ناحية، ومواجهة مع هذا القاتل الأثيم الذي لم يتحمل حجابا لم يكن فيه ما يؤذي أو يجرح الإحساس، بل أنه في أزمنة كثيرة كان شائعا بين المسيحيين، وهو واحد من فرائض الديانة اليهودية الأساسية، ووفق كل الأحوال فهو واحد من الحريات الخاصة للإنسان. فعلى هذا نتفق ولا تكون المزايدة على الجانبين!.