اليقين الذي اصطدم بالحائط

TT

لقد ترعرت ـ تقريبا بشكل حرفي ـ في كنف روبرت ماكنمارا، فقد انضم أبي «بول أغناتيوس» إلى فريقه في البنتاغون في عام 1961 وظل يعمل معه خلال سنوات الحرب في فيتنام كمساعد مقرب، وبعد ذلك كصديق. وبالنسبة لي، فإن وفاة ماكنمارا تستدعي عالما كاملا من العلاقات والأحلام والتناقضات التي كانت تميز واشنطن في الستينات.

لدي صورة عتيقة تصور كيف كان الإحساس بعام 1961، خاصة إذا ما كنت في الحادية عشرة من عمرك وتشهد بزوغ عصر ماكنمارا في البنتاغون؛ في تلك الصورة يظهر أبي وهو يحلف اليمين لاستلام وظيفته في البنتاغون كمساعد وزير الدفاع، وكنت أنا وأمي ننظر إليه بفخر وثقة لا حدود لهما، ويجب أن يكون لدى أسرة ماكنمارا العديد من الصور المشابهة لتلك الأيام المبكرة من «أفضل وأكثر الأيام إشراقا» قبل أن تصبح تلك العبارة شائكة.

ما هي الاحتمالات التي كانت تتعلق بماكنمارا في تلك السنوات الأولى؟ الجرأة ليس انطلاقا من الأمل بل من المنطق؛ فقد جاء إلى واشنطن كعقلاني يؤمن أنه يستطيع تحويل المستنقع البيروقراطي لوزارة الدفاع إلى شيء حديث وفعال.

وقد جمع كل «الفتيان البارعين» من المساعدين الشباب مثل أبي وقتذاك وشجعهم على تحدي الممارسات الآلية، والسياسات اللعينة، وكان يدعمهم طوال الطريق.

فعلى سبيل المثال، كان أبي قد قدم توصية إلى ماكنمارا بإغلاق ترسانة الووتر تاون، وهي المنشأة العسكرية العريقة والمهجورة في ماساشوستس. وربما تكون تلك الولاية قد توقعت القليل من المناصرة بعد انتخاب جون كيندي كرئيس للولايات المتحدة وتولي جون ماكورماك لمنصب رئيس البرلمان، ولكن ماكنمارا لم يفكر أبدا في التروي في مسألة إغلاق القاعدة؛ فهو لم يكن بحاجة لاستشارة «لجنة نقل قواعد الدفاع أو إغلاقها» أو أي شكل من أشكال التعمية الأخرى، فقد أخبر ماكنمارا أبي ونوابه الآخرين أن يفعلوا ما يرونه صائبا.

ولم يغفر الجيش أبدا لماكنمارا ذلك الإصرار على تطبيق تقنيات الإدارة الحديثة على دفاع الأمة. فلم يكن الجنرالات والأدميرالات يرغبون في العقلنة؛ فقد شيدوا آلة قوية لمواجهة الاتحاد السوفياتي وقاوموا محاولات ماكنمارا لإحداث تغيير.

ثم جاءت حرب فيتنام، الحرب التي ستلتصق دائما باسم ماكنمارا، والحرب التي هزت إيمان العقلانيين: هنا عدو فلاح يحاربنا مرتديا ما يبدو بالنسبة لنا أنه بيجاما ويعيش على حفنة من الأرز واستطاع بشكل ما مقاومة كل حسابات القوة العسكرية لأميركا وكل حسابات ماكنمارا الدقيقة.

وقد استمر الجيش في إصراره على أنه بإرساله 100 ألف من القوات وقصف عدد كبير من الأهداف، سيقضي على ذلك العدو غير المحتمل. ولم تكن حرب فيتنام ذلك النوع من الحرب، كما أن تلك الحرب قد قضت ببطء على ماكنمارا.

فبالرغم من حالة اليقين التي كان يبدو عليها، فإن ماكنمارا لم يكن متحمسا للحرب، فكان يضع قدما في الميدان وأخرى خارجه وكانت قناعته بأن سلاحنا لن يفلح في تلك الحرب غير المتكافئة تزداد يوما بعد يوم.

وبالنسبة للجيش، كانت تلك هي كبرى خطاياه، إنه ضحى بحياة الشباب الأميركيين من دون أن تكون لديه قناعة قوية باحتمالات النصر.

وخلال سنوات فيتنام، كان الآباء الذين يعملون في بنتاغون ماكنمارا يذهبون إلى منازلهم ليلا وكأنهم يجرون ثقلا هائلا، رغم أنهم كانوا رجالا لم يعرفون معنى الإخفاق إلا أن تلك الحرب قد أربكتهم. فمشاهدة هؤلاء الرجال الجذابين العباقرة وهو يرزحون تحت وطأة قضية فيتنام كان أمرا لا ينسى؛ فكان الأمر يماثل اصطدام سيارة رياضية ضخمة بأحد الجدران وهي تسير بسرعة عالية؛ ففي البداية لا يمكنك تحديد مدى فداحة الأثر الذي تخلف عن ذلك الاصطدام.

لقد كان ماكنمارا رجلا حساسا أكثر مما يعرف معظم الناس، وقد هزته الحرب على فيتنام بشدة. كما أنه كانت لديه مشكلة في السيطرة على مشاعره علانية في الشهور الأخيرة قبل استقالته من البنتاغون في بداية عام 1968.

وفي سنواته الأخيرة، أظهر ضعفا شديدا ورغبة في فهم خطأ فيتنام والتكفير عنه.

وذاكرتي عن ماكنمارا معقدة للغاية، ففي سنوات شبابي، كنت أعتقد أن القضية بسيطة، فقد كانت حرب فيتنام خاطئة. وقد استمتعت بالمشاركة في المسيرات الاحتجاجية التي تطالب بإنهائها. ولكن مع مرور الوقت، ورؤية أحكامي الخاطئة على الأشياء، فإني قد تعلمت درسا آخر: كن حذرا من اليقين الذي صدره ماكنمارا، احترس من فكرة أن الأذكياء يمكنهم حل أية مشكلة، فقط من خلال العمل باجتهاد.

فلا أحد يتمكن من تجاوز أخطائه، حتى ماكنمارا، ولكن ربما سوف تحفظنا ذاكرة ذلك الرجل العبقري الحزين من أن نكون متأكدين إلى ذلك الحد من أحكامنا، وتشجعنا على التفكير حتى عندما نشعر بمنتهى الثقة في احتمالية أن نكون مخطئين.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»