سياحة لبنانية رائعة.. لكن بالحد الأدنى

TT

منذ أن أعلن وزير السياحة إيلي ماروني لبنان «ساحة حب» وبشّرنا مطلع الصيف الحالي بأننا «طوينا صفحة الانتخابات وفتحنا صفحة المهرجانات والاصطياف»، حتى تدفق السياح أفواجا، وغرق مطار رفيق الحريري بالوافدين، غير آبهين بإنفلونزا الخنازير. والنتيجة إيجابية، حيث سيصل إلى لبنان حتى نهاية السنة ما يقارب مليوني شخص. لكن، ها نحن نكتشف أن الترويج وحده لا يحيي الإنسان وينعش الأوطان، إن لم يقترن بعمل جدي على الأرض. فالازدحام بات كبيراً في بيروت والجبال القريبة منها، بفضل وصول 90 ألف زائر كل أسبوع، يتحركون على مساحة محدودة، حتى ليشعر المرء بالاختناق، خاصة حين تشتد أزمة السير. وإن كان الجنوب له ظروفه الأمنية، فإن الشمال والبقاع فيهما من المقومات السياحية ما لا يترك عذراً لمسؤول. ومن غير المفهوم، أن يختصر لبنان السياحي بعدة مناطق، فيما تترك مساحة ثلاثة أرباع البلد مهملة، وكأنما لا أمل منها. فالذاهبون إلى مهرجانات بعلبك، وهؤلاء يعدّون بالآلاف يكتشفون مدينة متروكة وحزينة، رغم آثارها الرومانية المهيبة. وبالكاد ينهون حضور حفلاتهم، حتى يضطرون للركض باتجاه الباصات خشية أن تتركهم، إن هم أثارت فضولهم معروضات دكان تراثي حاول إغراءهم. وعكار في الشمال التي تكاد تكون من أكبر المناطق اللبنانية مساحة مهملة بالكامل هي الأخرى، رغم أن زائرها لو تحدى طرقاتها الوعرة وقراها الفقيرة، ووصل إلى قمم جبالها لرأى كيف يمكن للإنسان أن يقف في قلب الغيوم، ويتلفح بها، لا بل ويطاردها ويحاول الإمساك بطرفها، قبل أن تفلت من يده، وكأنما يقبض على سراب. في هذه المنطقة النائية التي تبدو خارج حسابات الدولة اللبنانية، ترى المنحدرات خرافية، من مطلات القمم الشاهقة، والمشهد ساحر، حتى ليقال بأن قمم القموعة (اسم منطقة في عكار) هي جنة الله على الأرض. ولشدة الإهمال فإن الناس هناك حين يرون سيارة غريبة يستهجنون، أو سائحاً أجنبياً يتساءلون، قبل أن يرحبوا بالضيف الذي لا يعرفون ما الذي أوصله إليهم.

ومشكلة السياحة في لبنان، أنها تتحرك بالمبادرات الخاصة، وتنمو بفضل المغامرين الأشاوس الذين لا يستسلمون للخوف من النكسات الأمنية المستمرة، فيما الرؤية الاستراتيجية للدولة غائبة بالكامل أو تكاد. ورغم اجتماع الوزراء المعنيين بالقطاع السياحي مع بدء موسم الصيف ومحاولتهم بذل جهود استثنائية، إلا أن هؤلاء لا يملكون أكثر من تحسين أداء وزاراتهم في حدود قاصرة وضيقة.

ويعتمد لبنان على سياحة الجمال والترف فيما اختارت سوريا لنفسها سياحة تراثية مبنية على الأصالة والروح العربية، مروجة للتعايش الديني من خلال مزارات الأولياء الصالحين والمراكز الروحية المسيحية، واتكأت الأردن على آثارها واستقرارها الأمني. وكان بمقدور لبنان أن يجمع هذا كله، لو توفرت له الرؤية الرسمية والخطة ذات النظرة الشمولية، التي يستفيد منها المستثمر ويبني عليها، بدل أن يترك لإلهام السماء.

أما وأن كلاً يغني على ليلاه. فالمستثمرون متروكون لتقديراتهم الخاصة، فهذا يبني فندقاً هنا، وهذا يفتح مطعماً هناك، وتلك لجنة تسعى لإقامة مهرجان في مكان ثالث. وما تراه في لبنان اليوم هو مجموع طموحات أناس، رأى كل منهم البلد من منظاره الشخصي، فوضع حجراً ظن أنه يكمل به البنيان. ومع أن السياحة كانت تمثل 24% من المدخول الوطني قبل الحرب الأهلية، فهي لا تشكّل اليوم سوى 9%. هذا يعني أن الاحتفال بعودة العصر الذهبي للسياحة في لبنان، فيه الكثير من المبالغة. فعدد غفير من الوافدين، هم من المغتربين اللبنانيين الذي لهم بيوتهم وأهلهم ولا يحتاجون الفنادق ولا يعتمدون على وجبات المطاعم، وإلا لما بقيت غرفة شاغرة أو وجد جائع كرسياً في مطعم. فباعتراف المعنيين أن لبنان الذي لديه 21 ألف غرفة فندق بحاجة إلى آلاف الغرف الإضافية لاستيعاب السياح الذين يستطيع استقطابهم. ووقفة على الحدود بين سوريا ولبنان تريك أن ثمة سياحاً عرباً باتوا يتجولون في المنطقة بين الأردن وسوريا ولبنان، دون اعتماد وجهة واحدة. هذا يعني أن المنافسة تتصاعد، وتنقل أهل الضاد في بلاد العرب يتزايد. وبحسب تقرير صدر العام الماضي فإن السياحة الخليجية إلى الدول العربية ارتفعت بنسبة 25% مما يجعل لبنان أمام تحدي استيعاب المزيد من السياح، وإغرائهم بخدمات لا يجدونها في سوريا والأردن أو المغرب. وتقرير آخر أكد أن الأردنيين هم على رأس لائحة السياح الوافدين إلى لبنان، يليهم الكويتيون فالعراقيون. أي أن الانتعاش السياحي يضرب في كل الاتجاهات، ولا بد من اقتناص الفرصة.

لبنان حالياً يرفع لواء الجمال والسهر والطرب، والمهرجانات الدولية ذات التنظيم الرفيع، وهذا كله بديع، وما اوردته «نيويورك تايمز» من أن لبنان هو الوجهة السياحية الأولى في العالم، ينعش القلب أيضاً، لكن استمرار حشر السياح في العاصمة وجوارها، دون توسيع رقعة الحركة، شمالاً وغرباً وجنوباً، والاستفادة من كل منحة ربانية، يجعل السائح يشعر وكأنما عودته لن تؤدي إلى جديد يراه. ومسكين لبنان الذي أصبح ضحية أهله الشرسين في تعاملهم مع البيئة. فبينما هم يعيشون في بلد كل شاطئ فيه، ومطلّ جبل يمكن أن يتحول إلى متعة، باليسير من الاستثمار، انهالوا على بحرهم وأرضهم، تخريباً وتلويثاً، وإفقارا وتشويهاً وتقزيماً للمساحة، حتى باتوا هم وسياحهم في سجن لن يخرجهم منه سوى العودة إلى الضمير. وإن كان وزير السياحة في حكومة تصريف الأعمال يريد فعلاً «لبنان بلداً سياحياً 365 يوماً بدل 60 يوماً»، عليه أن ينصح خلفه في الحكومة المقبلة أن يعمل وفق مبدأ: إن الوطن وحدة متكاملة، وليس مجرد مناطق مذهبية بعضها معجون بالسمن وآخر بالزيت.