أمن الإنسان والأوطان في العالم العربي

TT

يبدو عنوان: «أمن الإنسان العربي» إنشائيا وفضفاضا بعض الشيء. لكنه لا يعود كذلك عند الدخول في التفاصيل. وأمن الإنسان العربي هو عنوان وموضوع التقرير الخامس من تقارير التنمية العربية لهذا العام (2009) والتي تصدر برعاية وإشراف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ويكتبها باحثون وكتاب عرب. وكانت التقارير الأربعة الماضية التي حررها الأستاذ نادر الفرجاني، قد أثارت شكوكا وتحفظات لدى الجهات الرسمية العربية، وبعض الدولية، لأنها حملت السلطات العربية الجزء الأكبر من المسؤولية عن التخلف العربي في مجالات شتى من الحريات والتعليم وأوضاع المرأة والطفل وإلى الديموقراطية والمؤسسات وبناء الدول. أما التقرير الخامس فموضوعه أمن الإنسان في الوطن العربي بالمعنى الشامل لهذا الأمن، ولهذا المصطلح. ولا أريد هنا التعرض لتفاصيل هذا الموضوع الخطير، لأن الصحف والمجلات ستدرسه في الأيام والأسابيع المقبلة وتقرؤه قراءات نقدية. بل أود في هذه العجالة قراءة بعض «المقولات» التي حكمت المرحلة الماضية على مدى أربعة عقود، ولا تزال مؤثرة على فئات معتبرة من النخب والعامة. وذلك بقصد استشراف بعض معالم وآفاق المرحلة الجديدة التي تطل علينا بالكثير من التردد والغموض.

أولى تلك المقولات، مقولة الهوية، والتي مرت بمرحلتين، مرحلة الطهورية القومية، ومرحلة الطهورية الإسلامية. وقد أفضت المرحلة الأولى فيما بين الأربعينات والسبعينات من القرن الماضي إلى ظهور الأنظمة القومية التقدمية، التي تعتمد الكوربوراتية والاندماج، وتتمسك بالحزب الواحد، والقائد الخالد. وتعتبر كل تلك العناصر، إلى جانب التاريخ واللغة والأرض، سبلا ضرورية للحفاظ على فرادة الهوية العربية، وتحقيق الوحدة العربية، وتحرير فلسطين. وقد حفلت هذه الحقبة بمحاولات التوحد والتوحيد، والحروب من أجل فلسطين، والنضالات من أجل التحرير الاجتماعي والاقتصادي.

بيد أن هذه المرحلة اتجهت للخفوت والتراجع بعد هزيمة العام 1967. فالأمنان الاجتماعي والاقتصادي ما تحققا. كما لم تتحقق بالطبع المقتضيات الضرورية للهوية العربية في تجلياتها السياسية: الوحدة وتحرير فلسطين. وقد يمكن إعادة الكثير مما لم يتحقق إلى الحرب الباردة وظروفها. لكن الجمهور أو فئات واسعة منه، ربطت الفشل بالأنظمة من جهة، وبسياسات الهوية من جهة ثانية. ولذا فقد اتسمت المرحلة الثانية من تلك الحقبة بتعملق الخصوصية الإسلامية من خلال المشاعر الجياشة، ومن خلال الحركات والأحزاب التي صممت على تجاوز الفشل الذي صنعه القوميون، بتجاوز الهوية القومية أو العربية ذاتها. وفي حين نجحت الحركة الإسلامية بإيران في الوصول إلى السلطة من خلال ثورة شعبية ضخمة، فشلت حركات الهوية الإسلامية لدى العرب في إسقاط الأنظمة، فتطورت أقسام منها إلى حركات عنيفة نشرت الرعب في كل مكان، ومن أفغانستان إلى الولايات المتحدة الأميركية (أحداث 11/9/2001).

وهكذا ففي نهاية حوالي الأربعين عاما من سياسات الهوية نجد أن مقولة الهوية العقائدية بوجهيها القومي والإسلامي قد انفجرت مخلفة آثارا كارثية على أمن الإنسان والأوطان. ولو تأملنا المشهد الآن لوجدنا أن البقايا المتشرذمة إسلاميا وقوميا تتجمع تحت لواء الإسلام السياسي الممانع، الذي لا يملك مشروعا ولا بدائل؛ بل يذهب بحسب حديث الأمين العام لحزب الله الأخير إلى أن الهدف الوقوف في وجه المؤامرات الداخلية والخارجية، ولا شيء غير، أي لا وحدة ولا تحرير بحسب القوميين، ولا تطبيق للشريعة كما يريد الإسلاميون!

والمقولة الثانية: مقولة التحرير بدلا عن الدولة والجيش. وقد نجمت هذه المقولة عن هزيمة العام 1967. فالطريف أن الأنظمة العربية هي التي سلمت الفصائل الداخلة في منظمة التحرير الفلسطينية مهمة تحرير فلسطين أو تحرير الأجزاء التي احتلت من فلسطين عام 1967! وما اقتصر ذلك على الحكومات التي كانوا يصمونها بالرجعية والتخاذل؛ بل تزعمت الدعوة للطليعية الثورية أنظمة احتلت أجزاء من أرضها مثل سورية. وهذا يعني إسقاط المسؤولية عن الكاهل، وإحلال الميليشيات المقاتلة محل الجيش السوري أو العراقي أو الأردني أو اللبناني وبحسب هذا المنطق يمكن حتى للبلاد العربية التي احتلت أرضها أن تفاوض وتصالح العدو، دون أن تسقط دعواها الثورية والتحريرية، لأنها تستمر في خطاب المقاومة والتحرير في وسائل الإعلام، ولأنها تدعم بعض التنظيمات المقاومة. أما التنظيمات نفسها ـ والتي سلكت مسلك الدول تجاه أتباعها ومحيطها ـ فتستطيع أن تهجم على منطق الدولة ومؤسساتها، وتعتبر الحركات الثورية المقاتلة قادرة وحدها على القيام بالتحرير وتغيير المعادلة، دون أن تشعر تلك الأنظمة بأي حرج من ذلك! وهكذا انفرد العرب دون سائر الأمم المعاصرة بهذه الثنائية العجيبة: مقاومة/ دولة إلى الأبد. وللمقاومة تكال المدائح من الجميع سواء أنجحت في نضالها أم لم تنجح. أما الدولة فهي معفاة حتى من واجب تحرير أرضها هي. فالنظام السوري على سبيل المثال ظل حتى العام 2005 يعتمد على «الورقة اللبنانية» والمقاومة الإسلامية، ليس في تحرير جنوب لبنان وحسب؛ بل والجولان أيضا! أما الجيشان اللبناني والسوري فلا علاقة لهما بالتحرير ولا بالدفاع عن الدولة وحدودها! وقد نجم عن ذلك المزيد من تهديد الأمن الإنساني العربي لانتشار منطق الميليشيات، وغياب منطق الدولة. فالدولة التي لا تملك الدفاع عن أرضها وحريات مواطنيها، تصبح مرذولة ليس من مواطنيها وحسب؛ بل ومحتقرة من خصومها، ولا تملك أي إحساس بالمسؤولية تجاه مواطنيها. أما المقاومة العظيمة فهي مسؤولة عن قهر العدو أو ردعه، وعلاقتها بالناس تنتهي إلى أن تكون ترهيبية أو إرشادية. ولذلك فشل التحرير لزوال عصر حركات التحرير، وما تحررت الأرض العربية بمنطق الدولة، لتنازل الأخيرة عن مهامها من أجل الإبقاء على النظام، ولا بمنطق المقاومة لانفصالها عن الناس وتحكمها في أفكارهم وسلوكهم. والطريف أو المأساوي أن خطاب الأنظمة ظل يربط مشروعيتها بدعواها العمل على تحرير الأرض أو نصرة قضية الشعب الفلسطيني، وليس مثلا بالقدرة على إحداث التنمية الاجتماعية والاقتصادية، والأمن الإنساني، والتقدم.

والمقولة الثالثة: مقولة المواطنة والمجتمع المدني. وليس من قصدي هنا العودة لاستعراض كيفيات نشوء مفهوم المجتمع المدني لدى الأوروبيين. بل المقصود تتبع توظيف المقولة وما ترتب عليها من مفهوم للمواطنة. فقد استخدم مصطلح «المجتمع المدني» في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي من جانب المثقفين العرب العلمانيين لمواجهة مقولتي المجتمع الإسلامي، والحكم الإسلامي. وعندما هاجت الإدارة الأميركية في زمن الرئيس بوش الابن، جرى التأكيد على مفهوم «المواطنة» في مواجهة الأنظمة العربية. ولأن الصراع ظل بين فرق المثقفين وشراذمهم؛ فإن مقولتي المجتمع المدني والمواطنة، ما بعثتا على حركية بين الجمهور العربي حفظا لحقوقه ومنها حقه في المشاركة والأمن والتقدم. وزاد الطين بلة أن الضربات المتبادلة بين المثقفين والإسلاميين والأنظمة والأميركيين (مثلما جرى ويجري بالعراق والصومال والسودان ولبنان) ما مرت فوق رؤوس ذاك الجمهور؛ بل جرت به وعليه. ولذا فإن مقولتي المجتمع المدني والمواطنة ما وجدتا مصداقا من أي نوع في التأثير الإيجابي على أمن الإنسان العربي وحقوقه وضمانات تلك الحقوق.

أقبل تقرير التنمية العربية الخامس إذن على استعراض القضايا والتحديات التي تتهدد الأمن الإنساني العربي. وقد انشغل كالتقارير السابقة بإيراد الإحصائيات للسكان والموارد، وما تدل عليه تلك الإحصائيات من أخطار حاضرة ومستقبلية. وقد أخذ عليه خصومه من اليساريين والإسلاميين أنه ما ركز هجومه على الأنظمة كالتقارير السابقة، كما أنه أخر موضوع المقاومة والتحرير إلى الفصل السابع بدلا من وضعه في المقدمة!

وفي حين ينبغي الاعتراف بأن الإحصائيات والتعليلات في التقرير الخامس تظل قاصرة عن الإلمام بحجم المشكلة؛ فإن النقاد يعودون للاستناد إلى المقولات الثلاث السالفة الذكر، والتي تمثل مرحلة ماضية بالفعل. فتجارب الأنظمة في المرحلة الماضية تدعو بالفعل للغضب والكآبة؛ لكن تجارب حركات التحرير القومية والتقدمية والإسلامية ـ والتي من المفروض أن تحمل وعودا وتكشف آفاقا ـ تظل الأكثر بعثا على الخيبة والفجيعة. فإذا كانت الأنظمة فاشلة؛ فقد كان ينبغي أن تكون المعارضات أكثر نجاحا وأملا، والواقع غير ذلك.

إن تحقيق الأمن الإنساني العربي منوط بالدولة، ومنوط بالمواطن المشارك والفاعل. وما لم تسر المعارضات المسلحة وغير المسلحة باتجاه المواطن العامل والفاعل من خلال الدولة ومؤسساتها؛ فإن أمن الإنسان العربي سيظل منقوصا ومحوطا بالتهديد، ومن جانب أولئك الذين يريدون تحريره وانتصاره!