أيام فاتت

TT

كتبت في ما سبق عن مكارم الشيخ، المفتي والقاضي، أمجد الزهاوي الذي لمع اسمه وتألقت شخصيته لا في كردستان العراق فقط، بلده الأصلي، وإنما في عموم البلاد في أيام العهد الملكي من تاريخنا المعاصر.

كان إنسانا بكل ما يمكن أن تعنيه لفظة الإنسانية. صادفته في الطريق امرأة لم تكن له أية معرفة سابقة بها ولا هي عرفت أي شيء عن مكانته سوى العمامة التي كانت على رأسه. قالت لنفسها، لا بد أن يكون لهذا الرجل كلمة مسموعة في الدولة. تقدمت إليه تولول وتتوسل. كانت الشرطة قد اعتقلت ابنها لاشتراكه في المظاهرات.

راحت تتوسل بالشيخ أن يتوسط لدى السلطات لإطلاق سراحه دون أن تعرف ما الذي كان ولدها قد قام أو لم يقم به. وكذا فعل الشيخ، ولكنه طمأنها ووعدها بأن يبذل جهده في الموضوع.

عاد لبيته وتناول التلفون ليكلم جلالة الملك. لم يكن يعرف من يكلم في هذا الموضوع غير الملك نفسه. أدار الرقم وأجابه عامل التلفون: المن تريدون؟ أريد فيصل أفندي! كان الشيخ الزهاوي ما زال يعيش في تراث الآداب العثمانية. الأفندية هم صفوة القوم فافترض أن يكون هذا هو اللقب الجدير بالملك. لم يكن قد ألمّ بالألقاب الجديدة، صاحب الجلالة وصاحب السمو وهلمجرا.

«ابني، أعطني فيصل أفندي». قال. ويظهر أن عامل التلفون قد اهتز بهذا الخطاب. أن يكون هناك من يخاطب الملك بلفظة أفندي. فبادر لفتح الخط على الملك مباشرة في مكتبه الخاص. فحدثه عن الموضوع، والتمس منه أن يقوم بدوره ويأمر بإطلاق سراح هذا التلميذ الشاب. طمأنه جلالته على ذلك، بأنه سيأمر بالإفراج عنه. شكره الشيخ على حسن صنيعه. «بارك الله فيك وأمد في عمرك».

وهو ما حصل. بارك الله به ولكنه لم يمد بعمره. فبعد سنوات قليلة أطلق المجرمون الرصاص عليه وقتلوه.

لم يكن قد أغلق التلفون وانصرف لتناول عشائه حتى رن الجرس ثانية. مكالمة من البلاط. إنه فيصل الثاني نفسه. شيخنا، أنت لم تعطني اسم هذا الشاب لآمر بإطلاق سراحه. شنو اسمه الكامل؟

حك الشيخ رأسه. فكر وتأمل. الحقيقة أنه لم يسأل المرأة عن اسم ولدها. كيف فات عليه ذلك؟ اخبر جلالته أنه في الواقع لا يعرف اسم هذا الشاب. وحكى له حكاية تلك المرأة. لا معرفة له بها. صادفته في الطريق وتوسلت به.

قال الملك: ولكن كيف سأطلق سراح من لا أعرف اسمه. هناك عدد كبير من المعتقلين. فأجابه: وانتو ليش حابسين كل هالشباب؟ فكوا عنهم كلهم وخلي هالوليد يطلع وياهم.

لم يجد الملك بدا من ذلك. لقد وعد الشيخ المرأة بالإفراج عن ابنها، ووعد الملك الزهاوي بذلك. ولم يبقَ بيده غير أن يطلب من المسؤولين إطلاق سراح كل هذه الجوقة من المعتقلين الشباب وهو ما كان في يوم من أيام فات زمانها.