السقوط الحقيقي للمدن

TT

يحلو للكثيرين في منطقتنا استخدام عبارة سقوط بغداد لوصف الاحتلال العسكري الأمريكي لها في نيسان 2003، وليس ذلك سوى جزء من الثقافة السائدة في هذه المنطقة، حيث «الخطر الخارجي» هو الشماعة التي عليها نرمي جميع رزايانا، وبها نبرر أو نتغاضى عن خطايانا. «سقوط بغداد» تحول إلى فيلم مصري قال لي أحد النقاد المختصين إنه يحكي سقوط السينما المصرية أكثر مما يحكي عن سقوط بغداد، بدءا من الافتعال في اختيار الموضوع، والهادف فقط إلى دغدغة المشاعر الشعبية التي جرى ترويضها منذ زمن طويل على كراهية الأجنبي، وتحميله مسؤولية تخلفنا وفقرنا وانحطاط مجتمعاتنا. لا جديد في طريقة التفكير السائدة والآفاق مسدودة لأسباب، في مقدمتها أنه لا يمكن إنتاج فكر نقدي وحركة نقد ذاتي في ظل غياب الحرية وفي ظل «شيطنة» الديمقراطية مؤخرا عبر الإيحاء بأنها مسؤولة عن كل المآسي التي حصلت في العراق، وصار الهاجس لدى البعض إحداث مقارنة سمجة بين العصر الديكتاتوري والزمن الحالي بدون إدراك أن مخاض العراق الراهن هو استمرارية لصراع طويل يخوضه المجتمع مع ذاته، يتجلى أحيانا على شكل ديكتاتورية وحشية، وتارة على شكل حروب داخلية، وفي الحالتين فإن ذلك تعبير عن أزمة المجتمع العراقي، كما كل المجتمعات العربية، عن إيجاد مخارج عصرية وسلمية وعقلانية لصراعاتها الداخلية.

هناك ميل شديد نحو لوم الآخر عن أوضاعنا، وهو ميل تشجعه الأنظمة لتتخلص من مسؤولية فشلها وتتقبله الشعوب لأنه يبرر خضوعها وعجزها عن التغيير لا سيما وأن الآخر يتم تصويره كقوة جبارة تمتلك كل مفاتيح السيطرة، ولذلك أصبحت نظرية المؤامرة مهيمنة على التفكير السائد في المنطقة لأنها أسهل من تبني التفكير النقدي والبحث في الظواهر المعقدة. بالطبع إن من السذاجة أن نتصور أن الآخر لا يسعى لتحقيق مصالحه على حسابنا، أو أننا لا نسعى إلى الشيء نفسه عندما يكون ذلك ممكنا، إلا أن جعل الآخر العلة الوحيدة والتغاضي عن إشكالياتنا المزمنة هو هروب من مواجهة الحقيقة، لأن الوعي بأننا متخلفون هو البداية الحقيقية لمواجهة التخلف.

إن السقوط الحقيقي للمدن، وفي هذه الحالة للحواضر التاريخية الكبرى في المنطقة كبغداد والبصرة ودمشق والقاهرة والإسكندرية وبيروت، يحدث عندما تذبل شعلة الحضارة والقدرة على إنتاج الإبداع، وعلى مفاجأة الذات والآخر، السقوط الحقيقي يحدث تدريجيا ويضرب عميقا في جذور الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية، ويتجلى على شكل انسدادات مزمنة تتفجر عنفا هائلا، أو ثورة كبرى، أو فوضى مدمرة حالما تتصدع عوامل كبتها، الشيء الذي حصل وما زال يحصل لبغداد مثلا. السقوط الحقيقي يتجلى عندما تعجز المجتمعات عن أن تقدم جوابا على سؤال العصر، عندما يهيمن عليها الخوف فتنتج فوبيا هائلة تجاه المستقبل وتجاه الآخر، عندما تخشى المراجعة وتتخندق وراء أسوار المقدس ثم توسع دائرة القداسة مقاومة أي محاولة لنفخ التراب عن بقايا الماضي، عندما تقاوم الفكرة بالتكفير أو التهديد بالقتل، أو العقوبات القضائية، عندما تتوسل الخلاص عند قبور الأولياء، عندما يستفزها خروج عن المألوف في العبادة، أو خروج عن المهيمن في التفكير والكتابة، أو خروج عن السائد الاجتماعي، أو حتى خروج عن النص في مسرحية هزلية.

السقوط الحقيقي يبدأ عندما يقرر المجتمع أن لا يواجه معضلاته، عندما يصبح التفكير بها أو مناقشتها «فتنة»، عندما يتلاشى تسامح المدن الكبرى وقدرتها على استيعاب وصهر القادمين من الريف المهمل ومناطق الهامش بحثا عن الضوء والأمل، عندما يتم تكديسهم في العشوائيات ومدن الصفيح على أطراف المدن، حتى لا يخدش وجودهم عيون السياح القادمين لإنعاش الاقتصاد «الوطني»، فيتحولون بمرور الوقت إلى قوة هائمة قابلة للانفجار ومليئة بالسخط والغضب. يحدث السقوط الحقيقي عندما تنسى القاهرة طه حسين والعقاد ومحفوظ وفرج فودة، وترسل بحامد أبو زيد إلى المنفى، وتهدد مفكريها بالذبح، عندما يضيق الفضاء البغدادي بروح علي الوردي فلا يجد قبرا لائقا يضم ذكراه، أو مؤسسة علمية تتسمى باسمه، في وقت رفعت أسماء النكرات والجهلة لنصف قرن على أبوابها، عندما يجهل الجيل الجديد من العراقيين بدر شاكر السياب، وتسقط الجنسية عن الجواهري، ويمرض النواب فلا يجد مسؤولا ثقافيا يعوده. عندما تجف أنهار الجنوب العراقي وتترك عواجيزه الفقيرات يجرفن الملح على شواطئ عطشه الجديد وجوعه القادم، عندما تهدر كرامة الإنسان ويساق إلى حروب وهمية للاختيار بين مواجهة عدو لا يعرف لماذا يقاتله، أو مواجهة كتائب الإعدام الواقفة وراءه، عندما يصبح موته في سبيل «الوطن» واجبا، أما سؤاله لهذا الوطن عما قدم إليه فخيانة، عندما تتحول الجامعات إلى مؤسسات منتجة للتخلف وأساتذتها إلى مومياءات ناطقة بفكر ماضوي لم تغير منه فواجع الحاضر والماضي القريب شيئا، عندما يتجمع الملايين لمشاهدة مسلسل تلفزيوني سطحي أو برنامج حواري تهريجي معظم محاججيه من أنصاف المتعلمين، ثم يتفرقون إلا بضعة آحاد عندما يقدم حديث جاد. عندما يكثر المترحمون على ديكتاتور جاهل بقدر ما يكثر الشامتون بشعب منكوب، وعندما يصبح موت المئات يوميا في عنف طائفي غير مبرر خبرا عاديا لا يرقى تغطية أو اهتماما لخبر وفاة مطرب أو مطربة.

هذا هو السقوط المسكوت عنه، الأكثر خطورة والأقل وضوحا، والذي يصبح معه دخول الأجنبي نتيجة طبيعية، بل ومقبولة لدى الكثيرين من الذين أضناهم ظلم أبناء الوطن وأتعبهم الشعور بغياب الخلاص، وبهذا المعنى فإن بغداد سقطت منذ زمن أطول مما نعتقد، وأن غيرها من المدن غير الساقطة رسميا تعيش سقوطا غير معلن..