فن استغلال المفردات السياسية

TT

كتبت في الثلاثاء الماضي عن مرحلة «استحضار» الأرواح في الحياة السياسية الفلسطينية. قلت إن فاروق القدومي (81 سنة) استعاد عرفات لتخويف عباس. فجاءت خطأ لا لتخويف عباس!

تحدثت عن شوفينية (التعصب) عرفات الاستقلالية، لإيماني بأن قضيته عربية، قبل أن تكون فلسطينية. وليس «الاستغلالية»! لم اتهم عرفات بالاستغلال. مازالت أعتبره زعيما وطنيا.

لكن ليس هذا هو موضوعي اليوم. إنما أريد أن أتحدث عن موضوع عام أكثر أهمية: فن استغلال المفردات والشعارات السياسية والدعائية، في «إقناع» الرأي العام والشارع الشعبي، بوجاهة سياسة، أو أيديولوجيا، أو شخص ما.

ثورات الإعلام المتلاحقة لم تحرر الرأي العام، بل جعلته أكثر عرضة للزيف، في هذه المبالغة في استغلال الشعار والرمز والصورة. بات من السهل تكييف العقل السياسي للمواطن العادي، مجرد نحت المفردات الدعائية الجذابة.

في ذروة الحملات الانتخابية في مصر، يطرح الإخوان المسلمون شعارهم الدعائي الدائم: «الإسلام هو الحل». الشعار المختصر يغني أصحابه عن الشرح والتحليل. لكن إذا سألت إخوانيا أو نصيرا للإخوان: كيف يكون الإسلام حلا؟ لعجز عن الإجابة. نعم، الدين منظومة أخلاقية واقية للمجتمع. بيد أن الحزب الديني (الإخوان) غير قادر على تكييف الحلول الدينية البسيطة مع تعقيدات الحياة الحديثة، في الاقتصاد والسياسة والتنمية البشرية.

بل كانت مفردة (الإخوان المسلمون) ذاتها التي صاغها حسن البنا مجال جدل سياسي منذ الأربعينات. كان المعترضون من مسلمين وأقباط، يرون أن البنا أسبغ نعمة الإسلام على جماعة من الناس، وليس على المجتمع كله، وعَرَّضَ المواطنين إلى فرز خطير بين «إخوان» مسلمين، وآخرين غير مسلمين لا يتمتعون بالمساواة مع أفراد الجماعة، ولا يرقى إيمانهم إلى الإيمان التي تخص الجماعة نفسها به.

كان البنا وجماعته في موقف المدافع غير المقنع في الجدل.

وأستطيع أن أقول إن كل ما أصاب الإخوان من كوارث سياسية، هو بسبب هذا الفرز الديني والطائفي المتعالي على المجتمع والوطن. بل هو يتناقض تناقضا خطيرا مع قدرة الإسلام على التكيّف والانسجام، مع مبدأ المساواة في الدولة الحديثة.

«حزب الله» هو الرد الشيعي على «الإخوان المسلمين». المفردة الشيعية أكثر ضيقا وتزمتا. فهي في معناها الضمني تضع سائر الطوائف والمواطنين فى حزب الضلالة، «حزب الزقّوم» الذي خص به القراّن الكريم الجماعة الكافرة التي لم تتقبل الإسلام.

السلوك السياسي والاجتماعي لـ«حزب الله» اللبناني يعتمد على هذه الخصوصية التي يضفيها على الطائفة الشيعية. فهي وحدها «حزب الله». هنا أيضا يتناقض الإسلام الشيعي المسيَّس مع المفهوم الحداثي للدولة التي لا تعترف بسلاح غير سلاحها.

إسرائيل في اعتداءاتها الهمجية المتكررة على لبنان تمنح «حزب الله» الفرصة والمنطق، لاستخدام سلاحه ليس ضدها فحسب، وإنما أيضا ضد خصومه السياسيين، بحجة أنهم في تمسكهم بحق الدولة، في أن تكون «المسلَّح الوحيد» يعتدون على حزب المقاومة، حزب الطائفة الأكبر، حزب ثقاة المؤمنين: حزب الله.

مع تسييس الإسلام، نحتت منظمات العنف الديني مفردات دينية دعائية لم يعرفها الإسلام في نقائه المبكر. لم يطلق النبي وخلفاؤه على جيش المسلمين تسمية «جيش محمد»، وحتى الولادة المبكرة للشيعة لم تعرف مفردة «حزب الله».

تاريخيا، فرق السنة والشيعة لم تجرؤ على إضفاء تسمية «الجهاد» و«الجماعة الإسلامية» و«حزب الدعوة» و«حزب التحرير الإسلامي» و«الناجون من النار» و«جند الإسلام»... على تنظيماتها السرية والعلنية. كانت هذه الفرق تعرف أن الإسلام دين أمَمِي لا يخص فئة، أو طائفة، أو شعبا.

دولية الإسلام لا تفرق بين عربي أو عجمي إلا بالتقوى. هذه الدولية الجماعية هي التي شكلت الجاذبية الهائلة للإسلام، وليس أبدا التنظيمات الدينية التي تحاول اليوم أن تحتكره، مكفرة غيرها، ومقاتلة مجتمعها، مسلميه قبل مسيحييه.

الاستغلال السياسي لا يعتمد فقط على نحت المفردات والشعارات الكلامية. حتى أضرحة الأئمة والأولياء يمكن استخدامها فى تجييش جماهير الطائفة والمؤمنين في خدمة غرض سياسي. غوستاف لوبون المفكر وأحد رواد علم النفس السياسي والاجتماعي كان أول من تنبّه إلى (إرادة الموتى القاهرة) قبل أكثر من مائة سنة.

رأينا هذه الظاهرة تتجسّد في الحشود المليونية التي سيّرتها إيران والأحزاب الشيعية العراقية نحو أضرحة الأئمة. كان الغرض إظهار القوة الشعبية الصاعدة في عراق ما بعد صدام، من دون مبالاة بحماية الزحوف الطائفية من فتك أحزمة بن لادن والزرقاوي الناسفة.

رافقت المغالاة في التقرب من «أولياء» الله رعاية السادات للهبة الدينية. كان مشهدا مضحكا أن ترى في الحفلات العامة حسن التهامي مَحزوما بالجزمة العسكرية، وهو يمد يده إلى الهباء مصافحا. عندما كان يسأل ماذا يفعل، كان يجيب بأنه يسلم ويصافح روح فلان من «أولياء» الله. ولئلا ننسى، فالتهامي هو الضابط الذي استخدمه السادات في محاكمة الناصريين السلطويين بعد رحيل عبد الناصر.

كانت الأحزاب القومية العربية أسبق من الأحزاب الدينية، في تسخير المفردات والشعارات السياسية، لتجييش وأدلجة الجماهير. لعل شعار (وحدة. حرية. اشتراكية) أشهر تلك المفردات التي أفرغت عمليا من مضمونها، بحيث باتت هيكلا عظميا شاهدا على إخفاق المشروع القومي الوحدوي.

أَمرّ سريعا، للتذكير فقط، بمفردات دعائية اضمحلت، بعدما أدت دورها في زيف التضليل السياسي: الصمود والتصدي. دولة العلم والإيمان. الجماهيرية. النظرية الثالثة. الحزب القائد. حزب الطليعة. الثورة الثقافية. قفزة ماو إلى الأمام... آخر المفردات الركيكة المثيرة للسخرية تلك التي نَحَتَتها حماس وحزب الله وروّجتها إيران: «الاعتدال والممانعة». الغرض دمغ النظام العربي بالجمود والقبول ومسايرة الغرب وإسرائيل، في ممانعة من إيران وسورية وحماس وحزب الله. كمية لا بأس بها من كتاب الصحافة ومعلقي السياسة، وقعت في إغراء احد أكثر المفردات الدعائية سخفا وتمزيقا للعرب.

طرح بوش شعار «الإرهاب» في حربه «المقدسة» ضد العرب والمسلمين. أمام أوباما فرصة زمنية كافية لمنح شعاره (التغيير) معنى عمليا في التطبيق، وإلا فسيكون شعاره كشعار (الطاقة النووية للأغراض السلمية) الذي استخدمته الهند وباكستان والصين، وتستخدمه إيران للتغطية، ريثما تستكمل بناء قنبلتها. هذا الشعار لا يصدقه اليوم «ببراءة» سوى الرئيس بشار، وهو ينفي بالنيابة عن إيران شبح قنبلتها المقبلة.