إمارة حماسستان

TT

إذا نحينا جانبا الجانب السياسي في حكم حماس في غزة، الذي جاء بعد انقلاب على السلطة الفلسطينية، وخلق واقعا مريضا من الانقسام الفلسطيني, فإنه رغم السلبيات توجد ميزة يمكن رصدها من خلال ما يحدث على الأرض, وهي الكيفية التي تدير بها شؤون الناس أول حركة مرتبطة فكريا بالإخوان تصل إلى الحكم، حتى لو كان ذلك على مساحة صغيرة, وفي قطاع محاصر يعيش أغلبية سكانه على المعونات, ولم يتبقّ فيه الكثير من الأنشطة الاقتصادية.

والجدل الحادث الآن بين نقابة المحامين الفلسطينيين وهيئة القضاء التابعة لحماس، والتي تم إبعاد الموالين للسلطة الفلسطينية منها, نموذج على طريقة التفكير التي تحكم الحركة, وأسلوب العيش التي تريد فرضه على الناس مستقبلا إذا رسخت أقدامها وحصلت على اعترافات دولية وإقليمية.

المفارقة أنه لا يوجد مبرر مفهوم أو قوي لقرار مجلس القضاء الأعلى الذي رفضته نقابة المحامين باعتباره يمس الحريات الشخصية بفرض زي معين على المحاميات أمام المحاكم، وهو الجلباب ومنديل الرأس (الحجاب)، فأغلبية السيدات هناك محجبات, والمجتمع الغزواي محافظ بطبيعته, ولم نرَ أزياء صارخة للناس هناك في مناسبات عامة أو حتى على الشواطئ للرجال والنساء, والظروف القاسية التي يعيشها القطاع تجعل قضية الأزياء في آخر قائمة اهتمامات الناس، التي تأتي على رأسها توفير قوت اليوم، والعثور على رعاية صحية مناسبة, ومدارس لأبنائهم, ووظائف للأجيال الجديدة والقديمة.

إذن ما هي القضية؟ وهل هي مسألة فراغ أو تمضية وقت بإصدار قرارات لتقول الحركة للناس نحن هنا؟ بالتأكيد حكومة حماس تريد فعلا أن تقول نحن هنا, لكن يبدو أنها مثل حركات الإسلام السياسي الأخرى تواجه ضغوطا من جماعات أكثر تشددا منها، مثل الجماعة الأصولية الأخيرة التي حاصرت عناصرها في خان يونس، والتي كانت تنتقد حماس لعدم تطبيق «الشريعة الإسلامية» ولمهادنة إسرائيل, فتلجأ الحركة إلى تبييض صفحتها أمام هؤلاء بإصدار قرارات تظهر أنها ليست متهاونة في هذا الأمر, وهكذا يمتد الأمر من تشدد إلى تشدد, والضحية في النهاية هم الناس العاديون الذين في النهاية ستحسب عليهم أنفاسهم, من كثرة الإجراءات والقرارات التي ستتخذ لما يسمونه «حماية الأخلاق والآداب العامة».

البعد الآخر في هذه القضية هو أنها تظهر أن الأولوية التي تعطيها حماس الآن هي لتثبيت أقدام حكمها في غزة وفرض آيديولوجيتها, بصرف النظر عن أي شيء آخر, وهذا ما يفسر لماذا أخذت جوازات المصالحة كل هذا الوقت دون أن تحرز نتيجة، رغم أن الجميع يعرف أن الانقسام الحالي بين الضفة وغزة يضر ضررا شديدا بالمصلحة الاستراتيجية للفلسطينيين, كما يفسر رفض الحركة وجود السلطة الفلسطينية أو ممثلين لها على معبر رفح الذي سعت بكل الوسائل، بما في ذلك تحريض الناس على اقتحامه، لفتحه منفردا لها غير عابئة ببقية المعابر, لسبب بسيط هو أن هذا المعبر هو الذي سيعطيها الشرعية، ولو كان ذلك على حساب معاناة الناس. ومثل الكثير من الحركات المشابهة فإن حماس ماهرة في إدارة حملة العلاقات العامة وإظهار نفسها باعتبارها المقاوم الوحيد, في حين أن الكثير مما يحدث هناك لا يعرف عنه أحد بسبب التعتيم الإعلامي وتخويف الصحافيين المحليين, فيما يشبه حكم الأنظمة الستالينية السابقة.

والرهان هو أن يكون هناك جناح مستنير أو يقدم المصلحة العامة على الآيديولوجيا في حكومة حماس لإنهاء هذا الوضع المضر بالمصلحة الفلسطينية, والوصول إلى صيغة مصالحة مع السلطة تقدم الفلسطينيين كطرف موحد في أي مفاوضات. الرهان هو أن يكون هناك طرف واقعي يعرف حجمه, وأنه إذا كانت «طالبان» فشلت في أفغانستان في البقاء في الحكم, فإن غزة الأصغر حجما بكثير لن تستطيع تجاوز جغرافيتها.