غلاة الصهاينة وابتزاز البابا!

TT

مرة أخرى أجد نفسي مضطرا للدفاع عن البابا ولكن هذه المرة ضد الإخوان اليهود! ويود المرء أن يقول لهم منذ البداية: كفاكم تطرفا وابتزازا للشخصيات الألمانية بخصوص المحرقة حتى على أرفع المستويات! فأنتم لا تحترمون أحدا في نهاية المطاف. وهذا التعصب للذات أو للطائفة على طول الخط قد ينقلب عليكم يوما ما كما نبهكم إلى ذلك شخص عظيم هو شارل ديغول. وهو أيضا حاولتم ابتزازه والنيل منه، ولكن هيبته التاريخية سحقتكم وأجبرتكم على التراجع خوفا من إغضاب الشعب الفرنسي كله. كل الناس تعرف أن البابا عندما دخل الشبيبة الهتلرية كان مضطرا إلى ذلك كمئات الآلاف من الشباب الألمان المغلوبين على أمرهم. فهتلر لم يكن يسألك رأيك فيما إذا كنت تريد الانخراط في صفوفه أم لا. إنه يقطع رأسك بكل بساطة ككل الطغاة في العالم إذا ما رفضت. وبالتالي فكيف نحاسب البابا على شيء لا حيلة له به. هذا يدعى تعجيزا بالمعنى الحرفي للكلمة. إنه لشيء مستغرب ومستهجن أن يلومه الحاخام مئير لو على ذلك. كما أنه مخجل ومعيب أن يرفض رئيس الكنيست روفين ريفلين استقباله في مطار بن غوريون لهذا السبب بالذات.

لكن الناطق الرسمي باسم الفاتيكان فيديريكو لومباردي صرح قائلا إن البابا لم ينخرط أبدا في حركة الشبيبة الهتلرية المرتبطة عضويا بالآيديولوجيا النازية وشخصية الفوهرر أدولف هتلر. وإنما أدخلوه غصبا عنه في وحدة للدفاع الجوي مسؤولة عن حماية المدن. هذا كل ما في الأمر. ثم عندما انتصر الحلفاء ودخل الأمريكان المنطقة اعتقلوه لفترة قصيرة قبل أن يخلوا سراحه لكي ينخرط بعدئذ في سلك الكهنوت.

ولكن الصحافة الألمانية تناقض كلام الناطق الرسمي وتقول إنه كان منخرطا بالفعل في حركة الشبيبة الهتلرية ولكن غصبا عنه. وكان ذلك عام 1941 أي وهو في الخامسة عشرة. وهكذا نعود إلى نفس النقطة.

لاحظ أنهم يحاسبون طفلا في الخامسة عشرة عن أعماله التي كان مجبرا عليها كمعظم أبناء الشعب الألماني أو كالكثيرين منه لكي نكون أكثر دقة. شيء عجيب! إياك ثم إياك أن تعلق في أيدي أولاد عمنا اليهود لأنهم عندئذ سوف يخنقون أنفاسك خنقا! وسوف ينتفونك ريشة ريشة حتى تصبح عاريا بلا ثياب.. ووحده الله يمكن أن يخلصك من براثنهم. هكذا نعود إلى مسألة التعصب من جديد ولكنه يهودي هذه المرة لا إسلامي. بالأمس كان إخواننا المسلمون في الأردن والعالم كله غاضبين عليه ويرفضون استقباله عند زيارته إلى الأردن أخيرا,بسبب هفوته في جامعة راتسبونغ قبل ثلاث سنوات. واليوم غلاة اليهود لا يغفرون له هفوة اقترفها غصبا عنه قبل سبعين سنة تقريبا!

من المعلوم أن كل الشخصيات الألمانية كبرت أم صغرت مصابة بعقدة النازية. ولذلك فكلها تبحث عن رضى اليهود لكي يشعر ضميرها بالارتياح أو لكي تتحاشى الملاحقات بكل بساطة. وحده غيرهارد شرودر رفض أن ينصاع لهذا القانون التعسفي الذي يشبه سيف ديمقليطوس المسلط على عنق كل ألماني. فعندما طرحوا عليه الموضوع لكي يحرجوه نظر إليهم باشمئزاز قائلا: هذه قصة حصلت قبل ستين سنة ودفع الشعب الألماني ثمنها باهظا. ولا يمكن أن تحاسبوا كل الأجيال الألمانية إلى أبد الدهر على جريمة اقترفها جيل واحد هو جيل الحرب العالمية الثانية. هذه صفحة طويت وانتهت ولا أريد أن تثيروا هذا الموضوع أمامي بعد اليوم. إذا كان عندكم سؤال عن موضوع آخر فاطرحوه. ثم أغلق الكلام بغضب مع الصحافي الفرنسي الذي حاول ابتزازه ما إن اعتلى عرش المستشارية في ألمانيا. لقد أعجبني موقفه آنذاك كل الإعجاب. وشعرت بأني أمام شخصية سياسية من الدرجة الأولى.

في القرآن الكريم هناك آية تقول: «ولا تزر وازرة وزر أخرى». وهي تشكل مبدأ أخلاقيا كونيا ينطبق ليس فقط على المسلمين وإنما على جميع البشر أيضا. ولكن يبدو أن غلاة الصهاينة لم يسمعوا بها حتى الآن! أقول ذلك على الرغم من أن ما يشبهها موجود في الديانة اليهودية المحترمة والتي تستحق كل التقدير.

لا يمكن أن تكون مسؤولا عن عمل قام به أحد غيرك حتى ولو كان أباك أو أخاك الشقيق! كنا نعتقد أن هذا قانون بدهي وتحصيل حاصل لا يحتاج حتى إلى مجرد ذكر. ولكن يبدو أنه ينبغي علينا التذكير بالبدهيات..

ثم ينبغي على غلاة الصهاينة أن ينتبهوا إلى أن هذه لعبة خطرة قد تنقلب عليهم يوما ما. بمعنى آخر فإن الفلسطينيين قد يستخدمون معهم نفس الأسلوب ويظلون يلاحقونهم على المحرقة الفلسطينية حتى بعد مائة سنة مثلما يلاحقون هم الألمان على محرقتهم اليهودية حتى بعد سبعين سنة. واحدة بواحدة! وما حدا أحسن من حدا. والواقع أن هذا ما يخشونه أشد الخشية. وهو ما سيحصل حتما حتى بعد عقد معاهدة السلام النهائية. عندئذ سيشعر كل إسرائيلي أنه لن ينال شرعية الوجود وراحة الضمير إلا بعد أن يرضى عنه شخص فلسطيني تماما كما هي حالة الألماني مع اليهودي. سوف يكرر التاريخ نفسه ولكن بشكل معكوس هذه المرة. وهنا قد يطرح سؤال نفسه: ألا يستخدمون قصة المحرقة النازية بمثل هذا الإلحاح والتركيز خوفا من أن يسائلهم العالم عن المحرقة الفلسطينية؟ ألا يفعلون ذلك للتغطية عليها بأي شكل وشكل؟ هكذا نكون قد عدنا مرة أخرى إلى مسألة صناعة الهولوكوست التي تحدث عنها المفكر اليهودي الأميركي: نورمان فنكلشتاين.

أخيرا سوف أقول ما يلي: لقد تعرض الفيلسوف مارتن هيدغر لنفس العملية الابتزازية على مدار الخمسين سنة الماضية. ولكن بما أن عظمته الفكرية كبيرة جدا فإنهم لم يستطيعوا الإطاحة به فظل شامخا صامدا يتحدى أعاصير الشائعات الكاسحة. والشائعة ضرب من الاغتيال بالمعنى الحرفي للكلمة، وبخاصة إذا ما كان يقف وراءها جهاز دعائي أو إعلامي جبار. فإذا لم تكن قويا راسخا في حقيقتك وواثقا منها مستعصما بها فإنها قد تقتلك أو تدمرك أو تهزك من جذورك على الأقل. يعرف ذلك كل من تعرض لهذا النوع من عمليات الاغتيال المعنوي والنفسي. بعد كل ذلك السيل العارم من الكتب المضادة له والمقالات المشوهة لشخصه وفكره لا يزال هيدغر يفرض نفسه كأكبر فيلسوف في القرن العشرين. ذلك أن الحقيقة قد تهتز قليلا تحت ضغط الدعاية المكثفة، بل وقد تشحب كثيرا في لحظة ما، لكنها لا تموت!.