لماذا لم يصل العرب إلى القمر؟!

TT

شعرت بالغيظ والإحباط مرتين خلال الأسبوع الماضي: مرة لأن الأميركيين وصلوا إلى القمر منذ أربعين عاما ونجحوا في وضع إنسان على سطحه ولا يزال ذلك احتكارا أميركيا خالصا لم تصل له دولة أخرى، ومرة لأن عربيا واحدا لم يصل هناك حتى الآن، والمدهش أن أحدا لم يهتم بالقضية من الأصل. وقد شغلتني هذه القضية خلال الأسبوع من أكثر من زاوية، فما زلت أتذكر تلك الأيام عندما بدأنا في متابعة أخبار السفينة «أبوللو 11» منذ يوم 16 يوليو 1969 حينما أطلقت إلى أجواز الفضاء وحتى يوم 20 من الشهر عندما هبط نيل أرمسترونج على أرض القمر في «خطوة صغيرة للإنسان ولكنها قفزة عملاقة للإنسانية». أيامها لم يُثِر الأمر اهتماما عربيا من زاوية الإنجاز العلمي والتكنولوجي، أو حتى الشجاعة الإنسانية لجماعة ـ نيل أرمسترونج، ومايكل كولنز، وإدوين يوجين ألدرين ـ وصلت إلى ما لم يصله إنسان من قبل، وليس على كوكب الأرض هذه المرة، بل إنه على «قمر» خارج نطاق الكرة الأرضية وفي أولى البوابات لِما بات معروفا الآن باسم «الفضاء» والذي لم يكن فضاء قط في زمن من الأزمان. وكان الاهتمام العربي ساعتها منصبًّا على من سوف يصل إلى القمر أولا وهل هو الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتي، حيث كان الهوى العربي ساعتها مع موسكو لتأييدها للقضايا العربية أحيانا، ولأنها اشتراكية أحيانا أخرى، ولأنها ضد الولايات المتحدة في كل الأحيان.

لم يفكر أحد من العرب ساعتها لماذا لا نكون نحن في هذا السباق، وكان الحماس للاتحاد السوفيتي كما هو الحال الآن في الحماس للصين، على الأقل حتى الأسابيع الأخيرة عندما اصطدمت الحكومة الصينية مع الأقلية المسلمة، فبعد أن استبعدت الدول والشعوب العربية نفسها من السباق فإنها صممت سباقا خاصا مريحا للغاية، ولا يتعب ولا يكلف الكثير، وهو تأييد الدول الأخرى لكي تسبق الغرب أو الولايات المتحدة أو إسرائيل أو أيا كانت المسميات. وكانت موسكو قد نجحت من قبل في الخروج خارج مدار الكرة الأرضية قبل واشنطن، وما زلت أتذكر كيف وزعنا في المدارس صورة ججارين ـ أول رائد فضاء سوفيتي أو من بني البشر يخرج خارج المدار ـ بعضها على بعض. ولكنها وقد بدأ البرنامج الأميركي يأخذ مجراه، وطالب الرئيس الأميركي جون كنيدي علماء بلاده ورواد صناعتها في 25 مايو 1961 بالوصول إلى القمر قبل عقد من الزمن، فإن تحقيق الأمنية في 20 يوليو 1969 جعل السوفيت يسابقون الزمن لكي تصل لهم مركبة إلى القمر دون إنسان وتعود منه ببضعة أحجار. وهكذا حصل بعض العرب على مباراتهم الموعودة، وجرى الحديث عن المركبة التي ستصل إلى القمر أولا، وأيهما أكثر قيمة ومعجزة علمية، أن يتم ذلك بالبشر أو بدونهم. ووصل الأميركيون إلى القمر أولا وعادوا منه بمجموعة من الأحجار، وزعوها على قادة العالم بما فيهم قادة الدول العربية، ونسي الناس ما جرى للمركبة السوفيتية، ولم يمضِ عقدان بعد ذلك حتى انهار الاتحاد السوفيتي نفسه ليس لأنه هُزم في السباق إلى الفضاء فيما عُرف بعد ذلك بتكنولوجيا حرب النجوم، ولكنه بات مهتما بالأيدلوجيات أكثر من التكنولوجيات، أو لأن الدولة شاخت، ومعها ضمن ما شاخ البحث العلمي والتكنولوجي، أو لأن العلم لم تعد له قيمة كبيرة في دولة يحكمها حزب واحد تآكل وتفكك وأصبح جاهزا للانهيار.

ولكن العرب ـ على أية حال ـ وصلوا إلى الفضاء على طريقتهم الخاصة، حيث شاع بينهم أن نيل أرمسترونج نفسه قد أسلم بعدما سمع أذان الصلاة على أرض القمر، وما دام رائد الفضاء الأول إلى القمر قد دخل دين الإسلام فقد أصبح واحدا منا تماما كما حدث بعد ذلك لمايكل جاكسون وآخرين جرت لهم الإحالة لمجد عربي وإسلامي تليد. المهم أن أحدا لم يهتم في تلك المرحلة عما إذا كان رائدا الفضاء الآخران ـ مايكل كولنز وإدوين ألدرين ـ قد استمعا إلى الأذان أم لا وهل دخلا إلى دين الإسلام أم استمرا على الطريق الخطأ. ولأن القصة لم يجرِ تأييدها من مصادر أخرى، أو من مصدر موثوق به، فقد بحث العرب عن طريق آخر للوصول إلى قمر، ودون بناء المركبات الفضائية، وإعداد رواد الفضاء، وتحقيق التقدم العلمي والصناعي اللازم، تجمع العرب على شراء قمر صناعي يبثون منه أحلام الوحدة المفقودة وصار اسمه «أربسات»، وفي وقت من الأوقات كان الحماس للقمر قد وصل إلى تجسيد فكرة القومية العربية في أنقى معانيها. ولكن الحماس سرعان ما ولّى وغاب، وذهبت كل دولة عربية لكي تشتري قمرها الخاص، أو تحصل على مساحات أو قنوات على أقمار دول وجماعات أخرى، ولما كان العصر قد وصل إلى التليفون المحمول، وإلى الفضائيات التلفزيونية، كان العرب قد وجدوا في الفضاء والفضائيات ضالتهم المفقودة، وهي الحصول على تكنولوجيات جديدة أنتجها آخرون ولكنها توفر قدرات هائلة لمزيد من الكلام حول الهوان والتخلف العربي. وبعد أن كانت الصحف والمجلات الورقية وحدها هي التي تتحدث عن الزمن العربي الرديء والرمادي والحزين والمظلم، فإنها أصبحت موجودة في صحبة 500 محطة فضائية تنطق باللغة العربية وتوزع مدحها وقدحها ذات اليمين واليسار في ساعات ممتدة على مدى النهار والليل، ولكن أحدا فيها لم يسأل أبدا لماذا وصلوا إلى القمر، ولماذا نجح آخرون في صناعة الأقمار الصناعية، ولماذا فشلنا نحن في تحقيق هذا أو ذاك، وكيف تواتينا الشجاعة بعد ذلك لكي نتحدث وكأننا نحن المظلومون في هذا العصر؟!

لديّ نظرية سوف أعرضها على القراء الكرام، والنظرية مثل كل النظريات تقوم على مجموعة من الافتراضات، وهي في حد ذاتها لا تكون خطأ أو صوابا، وإنما تخضع الافتراضات القائمة عليها لأساليب البرهنة والدحض. وهذه النظرية تقول إن العرب لم يصلوا قط، ولن يصلوا أبدا، إلى القمر لأن جوهر التفكير العربي يقوم على البحث عن «اليقين» و«الكمال» في الحقيقة المادية والإنسانية، بينما جوهر الفكر العلمي والصناعي والتكنولوجي يقوم على «الشك» وأن هناك مشكلة ما قائمة في جوهر الأشياء، وأن أمرا ناقصا دائما في تكوين المادة والحياة، وسد النقص هذا هو جوهر البحث العلمي، والوصول إلى المجهول، واستكشاف غير المعلوم. العرب بهذا المعنى يبحثون عما هو مطلق، والآخرون الذين وصلوا أو يحاولون الوصول إلى القمر يبحثون عما هو نسبي، الحقيقة لدى العرب ثابتة، بينما هي لدى الآخرين متحركة. لاحظ هنا كمّ الحديث عن «الثوابت» في الفضائيات العربية مقابل الحديث عن «المتغيرات» في الفضائيات الخارجية، ولو شاهدت أسامة بن لادن أو أيمن الظواهري، أو كثرة من الإسلاميين والقوميين العرب والناصريين والبعثيين واليساريين في منطقتنا سوف تجد تلك الهالة من الاطمئنان للوصول إلى الحقيقة المقدسة.

وفي واحد من الكتب لا أتذكره قرأت ذات مرة واحدا من أسباب انهيار الحضارة الفرعونية التي كانت ممتدة على مدى ثلاثة آلاف عام حتى جاء التجار والفلاسفة اليونانيون الذين كانوا منبهرين بالحضارة المصرية القديمة وما أنجزته في مجالات العمارة والفلك والحساب وحتى الدين إلى الدرجة التي جعلت الإسكندر الأكبر يذهب إلى واحة سيوة لكي يقدم الطاعة ويتعمد في المعبد المصري. ولكن مصر وقتها لم تعد كما كانت، بل كانت جاهزة للغزو الفارسي والهيليني، ومن بعده الروماني، ورجع ذلك إلى أن كهنة آمون قد تجمدوا ووقف يقاومون التغيير، والبحث العلمي حتى نُقل عن واحد من كهنة الفراعنة قوله متهكما إن هؤلاء اليونانيين كالأطفال يسألون أسئلة كثيرة! وباختصار عندما تتوقف حضارة عن طرح الأسئلة، والشك في جدارة الواقع، ورؤية «الثوابت» كحقائق متغيرة بفعل التقدم العلمي والتكنولوجي، فإنها في النهاية تفقد مبررات وجودها، وتصبح جاهزة للاختراق والغزو والفتح حتى من حضارات أدنى كان لديها القوة والعزم والتفوق العلمي. وما جرى للمصريين جرى للعرب بعد ذلك!