التوحد والانقسام في زمن الاستعمار وبعده

TT

في العقد الأخير من السنين تعرضت وحدة أربع دول عربية لأخطار التشرذم والانقسام: الصومال ثم السودان ثم العراق، والآن اليمن. وتختلف المواقع والأسباب، لكن الحقيقة أن هذه الأقطار جميعا ظهرت كياناتها وحدودها إلى الوجود في زمن الاستعمار، وهي تتعرض للمشكلات الآن وبعد عقود على زوال الاستعمار الملعون، ولذلك أسباب: أنظمة الحكم السائدة، والإسلام الراديكالي، والسياسات الأميركية في حقبة الأوحدية القطبية (1990-2008)، والضعف العربي العام. ولكي لا نستغرق طويلا في المقدمات بشأن أسباب هذه الظاهرة المفزعة، يكون علينا أن ننصرف لقراءة كل حالة على حدة، لنصل بعد ذلك إلى الاستنتاجات الضرورية.

أما الصومال فقد سقط نظامه العسكري تحت وطأة انقلاب عام 1991، وكان الرئيس سياد بري نفسه قد جاء إلى السلطة في انقلاب، وما تنبه إلى مخاطر موقعه، فطمح إلى استعادة أقاليم تسيطر عليها إثيوبيا، اعتبرها صومالية لأن للقبائل الصومالية امتدادات فيها (والمعني بذلك إقليم أوغادين)، فنشبت حرب بين الطرفين أضعفت الجيش الصومالي، ودفعته للانقلاب على قائده. وبسقوط سياد بري انقسم الجيش أيضا، وتفرق ضباطه بحسب قبائلهم، فصارت لكل ضابط كبير ميليشيا قبلية تسيطر على هذه المنطقة أو تلك إلى مطالع القرن الواحد والعشرين. ويومها تنبهت «القاعدة» إلى أهمية موقع الصومال مع غياب الحكومة عنه، فبدأ تأثيرها يتزايد من خلال الأنصار المحليين، ومن خلال الإعانات اللوجستية. وكما حصل مع «طالبان»، فإن «المحاكم الإسلامية»، وهي حزب أصولي صغير، أنشأت ميليشيا وضربت أمراء الحرب، وكادت تسيطر على كل الصومال، وما بقي بوجهها غير تنظيمات أصولية صغيرة أخرى. وخوفا من نفوذ «القاعدة» على ميليشيا المحاكم، دفعت الولايات المتحدة إثيوبيا لإرسال قوات تراجعت عن مواجهتها قوات المحاكم، وقويت الحكومة المؤقتة أو الانتقالية. إذ إن أحدا من العرب والمسلمين ما قبل بالتدخل الإثيوبي، فأرسلت قوات من الاتحاد الإفريقي لتحل محل الإثيوبيين الذين انسحبوا. وخلال ذلك جرت مصالحة بين زعماء القبائل والمحاكم، فانتخب زعيم المحاكم رئيسا للجمهورية! وما نفع ذلك شيئا لأن تنظيمين أصوليين تحت اسم الحزب الإسلامي، وشباب المجاهدين، أقبلا على قتال الآخرين ـ بمساعدة إريتريا ـ حتى في العاصمة مقديشو.

أما السودان فقد كانت مشكلته التقليدية بين الشمال والجنوب كما هو معروف، لكن رغم الاتفاق عام 2003/2004 بينهما، فإن مشكلات نظام البشير ما قلت ولا انحلت، لأن سائر الأحزاب السياسية السودانية ظلت ضد نظامه العسكري. وجاءت أولى الانشقاقات فيه من جانب منظر النظام الدكتور حسن الترابي. ومنذ عام 2004/2005 تشتعل مشكلة دارفور التي كلفت البلد استقراره، وقد تكلفه مشكلتا الجنوب ودارفور وحدته أيضا، وهذا فضلا عن ظروف وسياقات البؤس والتهجير في بعض المناطق، التي لا تقل هولا عما حدث ويحدث في الصومال.

وقصة العراق معروفة، فقد غزته الولايات المتحدة عام 2003 وغيرت نظامه بالقوة، وسقط فيه خلال فترة خمس سنوات نحو مليون إنسان، وتهجر داخليا أو إلى الخارج ثلاثة ملايين. وصارت حيوات الأقليات العرقية والدينية مثل التركمان والأشوريين والصابئة جحيما، والحياة بين السنة والشيعة صعبة، وصعبة جدا، أما الأكراد فلا يقبلون بشروط وإرغامات العيش الوطني السابق، ولا يستطيعون التصريح بالخروج منه باتجاه الدولة المستقلة.

وإذا كانت الدول الثلاث السالفة الذكر من «صناعة» الاستعمار وجودا وحدودا، فاليمن ليست كذلك، إذ إن شمال اليمن ما دخله مستعمر منذ أرغم العثمانيون على الجلاء عنه عام 1909. وكانت بريطانيا قد احتلت عدن عام 1835. وعلى مشارف إعلان استراتيجية شرق السويس للخروج من المنطقة أواخر الستينات، ثار العدنيون واليمنيون الجنوبيون على البريطانيين، وحققوا الاستقلال، بعد أن فضل البريطانيون تسليم الجنوب للشيوعيين على تسلميه لقوميي جمال عبد الناصر! لكن منذ ضعف الاتحاد السوفياتي في أواسط الثمانينات، واضطربت سياساته في سائر أنحاء العالم ومنها المشرق العربي والخليج، وتزايدت النزاعات بين الحاكمين في اليمن الجنوبي، ودفع التنافس الفئة الأضعف منهم إلى طلب الوحدة مع الشمال، والتي تحققت عام 1990. وقد حصلت محاولة أولى للانفصال من جديد عام 1994، وظل التذمر مستمرا بسبب الانقسامات الجهوية والقبلية والدينية والتجارية في الجنوب، وسوء إدارة الرئيس علي عبد الله صالح. وفي عامي 2008 و2009 تلاقت جهات التذمر المتناقضة وعبرت للمرة الأولى عن رغبتها في العودة للانفصال! ومنذ عام 2005 حصل انشقاق صغير في أقصى شمال اليمن (منطقة صعدة وجبالها) داخل الفرقة الزيدية (والرئيس علي عبد الله صالح منها) قاده حسين الحوثي، ابن بدر الدين الحوثي، أحد كبار مراجع الطائفة. وما أبِهت السلطات لذلك كثيرا، كما لم تأبه السلطات السودانية لعلائم وإشارات التمرد في دارفور عام 2003/2004. ثم تفاقم التمرد وأفضى إلى اشتباكات بين الجيش اليمني والثائرين على مدى سنوات اصطلح على تسميتها حروبا، وقد بلغت حتى الآن خمسا، ودخل الطرفان في الحرب السادسة. والطريف أن الحوثيين الذين يتزعمهم اليوم عبد الملك الحوثي (أخو حسين المقتول) أعلنوا دعمهم للحراك الانفصالي الجنوبي، بحيث وقعت السلطات بين حراكين وتمردين.

ما هي أسباب ذلك، ولماذا في هذه البلدان العربية بالذات بعد نهايات الحرب الباردة؟

أول الأسباب وإن لم يكن أهمها: سوء إدارات الأنظمة التي كانت قائمة ولا تزال. ويصح ذلك على اليمن وعلى السودان بالدرجة الأولى، إذ ما كان هناك حرص من جانب نظام البشير ونظام صالح على الوحدة الوطنية، وعلى المساواة بين الناس، وعلى سياسات تنموية بناءة. وعندما بدأت التذمرات تخرج إلى العلن في دارفور، سلطت الحكومة السودانية فئة على أخرى بدلا من العمل على إرضاء أو تهدئة المتذمرين. أما في اليمن فإن النظام أخطأ في فهم الحراكين الشمالي والجنوبي، واعتقد أنه وهو الحاكم منذ عام 1979 لن يستطيع أحد زحزحته أو التمرد عليه.

وثاني تلك الأسباب ما صار يعرف بالإسلام السياسي أو الأصولي، وهو حاضر في البلدان الأربعة اليوم أو منذ مدة. فنظام البشير في الأساس هو نظام أصولي وصل إلى السلطة في انقلاب عسكري، وأراد التصدي للمشكلة مع الجنوب، ولقضايا الحياة السياسية، بالأسلوبين الأمني والعسكري، بحجة تطبيق نهج «المفاصلة» وشرع الله. وأعطى ذلك للميليشيات الجنوبية ذريعة لإعلان الدعوة للانفصال. وقد تخلى النظام منذ مدة عن ذلك، لكنه في التسعينات شكل بيئة اجتمعت فيها سائر التنظيمات الأصولية ومنها «القاعدة». ومع أن السبب الأول لما يحدث في العراق هو الغزو الأميركي، لكن سائر الجهات بالعراق الآن، وسواء في الحكومة أو المعارضة، هي جهات ذات عنوان أو صبغة إسلامية سنية أو شيعية أو أصولية. وقد شكل أبو مصعب الزرقاوي المنضم إلى «القاعدة» مشكلة رئيسية بالعراق في عام 2006، ولا تزال بقاياه تسمي نفسها: دولة العراق الإسلامية. وفي الحكم اليوم حزبا الدعوة (المالكي) والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية (الحكيم)، وهما حزبان دينيان. وفي الصومال يصرح أعداء الحكومة المؤقتة بأنهم إنما يريدون إقامة الدولة الإسلامية، بينما يتهمهم خصومهم بأنهم مدعومون من «القاعدة». وفي اليمن يوالي الحوثيون الثورة الإيرانية ويتخذون من حزب الله نموذجا، بينما يشكل الأصوليون نسبة كبيرة بين المحتجين بجنوب اليمن. إن الذي يجمع الأطراف، أو إن المشترك بينها إنما هو معاداة الغرب، ومعاداة الأوضاع القائمة، والنضال من أجل إقامة دولة إسلامية تطبق الشريعة.

والعامل الثالث الذي أثار الاضطراب بسائر أنحاء المنطقة هو الهجمة الأميركية التي بدأت عام 2002 باحتلال أفغانستان، وعام 2003 باحتلال العراق، وشن حرب عالمية على الإرهاب. وطوال السنوات الماضية كانت منطقتنا بيئة للفعل الأميركي ورد الفعل الأصولي الإسلامي، بل إن الهياج الحاصل الآن والذي ازداد حدة بالصومال واليمن، يجد في الوجود الأميركي خصما له، ويستميت كل طرف في مناضلة الطرف الآخر.

وهكذا تجتمع في الاضطراب الحاصل بالبلدان العربية الأربعة، الصومال والسودان والعراق واليمن، العوامل الثلاثة التي ذكرناها: سوء نظام الحكم، والهجمة الأميركية، والصعود الأصولي. ولا مخرج من ذلك الاضطراب إلا بالانسحاب الأميركي، وإصلاح أنظمة الحكم أو تغييرها، وخروج «القاعدة» من المعادلة. وهذه مسائل تتطلب حراكا شعبيا شاملا وليس انقساما شعبيا.