المعارضات العربية: البديل الأسوأ

TT

في نقدنا للأوضاع السياسية في البلدان العربية، والعالم ثالثية عموماً، اعتدنا محقين أن نحمل الطبقات الحاكمة مسؤولية الإخفاق في بناء الدولة الحديثة، أو تعزيز الديمقراطية أو معالجة أزمات الشرعية والاندماج والهوية والتخلف، ولكن نقدنا غالباً ما يغفل التعاطي مع القطب الآخر من المشكلة، وأعني به المعارضة. أحياناً يكون من المشروع القول إن ليس هناك أسوأ من حكومات العالم الثالث سوى معارضاتها، وحتى لو كان هناك منطق مقبول في رفض هذه الرؤية عبر القول إن الحكومات الديكتاتورية لا تسمح أصلا بوجود معارضات أو بهامش لاختبار أداء هذه المعارضات أو شعبيتها، إلا أن من الصحيح أيضاً أن فشل المعارضة في أن تفرض نفسها كخيار شعبي، وان تهدد الحكومة عبر هذه الشعبية، يعني أن العنصر الأساسي لوجود هذه المعارضة قد تلاشى. إن المعارضة ليست عملاً ارتخائياً، أو وظيفة مدفوعة أو ديكورا تجميليا، إنها تقع في صلب المواطنة، وتبنى على المعاناة وتستمد شرعيتها من الأكلاف الباهظة التي تدفعها، وتصبح ضميراً للمهمشين فقط عندما تخالط مأساتهم وتستشعر معاناتهم.

وأمام هذا الحال يغدو من المشروع التساؤل عن «حقيقة» المعارضات العربية، والقول إنها أكثر فشلاً من الحكومات نفسها. وهذا الحديث يعنى فقط بالمعارضات «غير الديكورية»، أو التي يفترض أنها كذلك، ولدينا في العالم العربي إجمالاً ثلاثة أنواع من المعارضات؛ معارضات المنفى ومعارضات الميليشيات، ومعارضات الرفض. الأولى هي نتاج لسلطة القمع الممارس على العمل السياسي المعارض، هي مشروعة من حيث كونها السبيل لحماية حياة «المعارض»، ولكن تتحول بمرور الوقت إلى معارضة منقطعة عن محيطها الاجتماعي، منهمكة تماماً باستحقاقات الحياة المختلفة في «البلد المضيف»، مقيدة بعلاقات هذا البلد مع أوطانها، ولكنها أيضاً قد تتحول في بحثها عن الوجود والتمويل، إلى ورقة بيد أجهزة المخابرات المتصارعة ذات الأجندة التي لا تقع مصلحة الوطن ضمنها.معارضة الميليشيات، النوع الثاني، فإنها تقوم في معارضتها لسلطة الحكومة بمقاومة مشروع الدولة نفسه، إذ تقوم استراتيجيتها على التقويض بجعل البلد غير قابل للحكم كطريق لإثبات فشل السلطة القائمة، إنها تعطل إمكانية بناء المؤسسات واستقرارها لصالح مشروع سلطة قائم في جوهره على طرح بديل غير ديمقراطي، يعني تحقيق نفي المعارضة البديلة.

أما النوع الثالث، معارضات الرفض، فنراه في بلدان لديها هامش من الديمقراطية لكنها محرومة من وجود معارض كفء، يبني مواقفه على برنامج واضح ويطرح بديلا معقولا، معارضة لا تقوم على الرفض المبدئي للطرح الحكومي، بل تُقيم المواقف على أساس معيارها المنبثق من برنامج واضح المعالم، الكثير من السياسيين المعارضين لا يفهمون من المعارضة سوى لغة الرفض، والنقد المتعالي، يميلون إلى تعطيل البرلمان والمؤسسات التي من خلالها يمكنهم ممارسة فعل المعارضة والمحاسبة البناءة، ويفضلون السياحة في فضاء فضفاض من الأفكار والطروحات الايدلوجية وأحياناً الشخصية المخفية بستار من «الوطنية المفتعلة»، هؤلاء في الحقيقة أسوأ من الحكومة لأنهم لا يريدون تحمل مسؤولية المعارضة، لا يريدون لأقوالهم أن تكون واضحة ولبرامجهم أن تكون مفهومة، يتحركون في الغالب بوحي من رغبة بفشل الآخر وليس من منطلق الرفض البناء لفشله، وربما بوحي من مشروع انتهازي هدفه السباحة في المنتصف لصيد العدد الأكبر من الأسماك!!

لذلك فإن حظوظ المعارضات في منطقتنا تبدو محدودة إن لم تكن معدومة في الوصول إلى السلطة حتى وإن أتيح لها التباري في فضاء ديمقراطي حقيقي، ليس فقط لاختلاف مزاج وعقلية وموروث الناخب عندنا عنه في الدول الرصينة في الممارسة الديمقراطية إذ يلحظ انه هناك في النصف الأعلى من العالم بأن الناخب عادة ما ينتخب المعارضة لكونه متيقنا من أن لها رؤى بديلة وتمرس بالحكم وبرامج واقعية وليس طوباوية وأنها تقدم مشروع تغيير عن آخر قائم، لذا يلحظ أن التداولية هي سمة هذه الأنظمة، في حين عندنا وكجزء من العقلية المحافظة، ليس بمعنى الميل لليمين، بل المحافظة على ما هو قائم والرافضة والمتخوفة من التغيير، والمتيقنة دوماً من تجارب تراكمت بأن القائم خير من القادم وأن أمسنا أفضل من غدنا وبأن من تعرفه خير ممن لا تعرفه، فتبات المراهنة أو اختيار المعارضة هو قفز للمجهول لا تقدم عليه شعوب اعتادت الركودية، لذا وليس تبرئة لأنظمة الانتخابات الشكلية «تسعينية النسبة» بأنها لو احتملت وتبارت مع معارضاتها فإنها أيضاً ستكسب الانتخابات ولكن لربما بفارق معقول وبهامش معارضة ذات قيمة إلى جانبها، فهي لو اصطبرت لأدركت أن من غير الراجح أن يقدم الناخب على استبدال من هم في الحكم بأولئك الذين في المعارضة.

هذا ناهيك عن أن معارضاتنا الأبرز على مجمل المسرح السياسي العربي اتسمت غالباً بأنها معارضات ايدلوجية وتغرق في «القضايا الكبرى» من جهادية إلى صراع حضارات إلى انشغال بإحداث توازن في القطبية الدولية مترفعة عن حاجات مواطنها إلى فرص عمل وتعليم لأولاده وصحة لعائلته وشوارع خالية من القمامة، فهي أيضاً لا تعارض البرامج الحكومية وتجتهد لكي تنتج برامج وسياسات بديلة أو تعد طواقم أكثر أهلية وقدرة ومهارة على الحكم بل هي وإن عارضت ضمن إطار النظام إلا أن غالبيتها لا تؤمن أصلاً بهذا النظام لذا فالخوف منها يتساوى مع الخوف ممن هم في السلطة.

وأخيراً الحكومة الجيدة هي تلك التي تواجهها معارضة جيدة، فهلا توقفنا للحظة عن الصراع من أجل الحكومة وسعينا إلى إقامة معارضة فعالة، قادرة أن توفر بديلا لكي تفرض نفسها كخيار.