بانتظار تحركات إسرائيل و«صفقاتها»

TT

«يا بني، إذا رأيت الشجاع

يفر والجبان يكر..

فانأ إلى رابية وتأمل أن في الأمر خيانة»

(قيس بن معاوية التميمي،

والد الأحنف بن قيس)

مهمة الأنظمة الشمولية سهلة نسبيا في ممارسة السياسة. فلا «حقيقة» إلا ما تقوله أبواقها الإعلامية الرسمية، ولا «وطنية» إلا ما تعبر عنه. وإذا ما طالت فترة حكم هذه الأنظمة لبضعة عقود تغدو مهمتها أسهل.. لأنها تكسب حينئذ عنصر قوة إضافيا هو هيمنتها على رأي عام مدجن وعاجز عن التحليل، نسي كيف يشك، وغاب عن باله أن من حقه أن يحاسب.

خلال الأسابيع القليلة الماضية حرصت على متابعة إعلام بعض هذه الأنظمة، ومنها أنظمة في عالمنا العربي.. والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، فشعرت بعمق المأساة التي تخيم على عقل الإنسان العربي. وتألمت أكثر لمواقف أدعياء النضال والتحرير، الذين لا تلين لهم قناة ـ كما يقولون ـ في وجه «المشروع الصهيوني التوسعي».. طبعا.

قبل أكثر من 60 سنة زرعت إسرائيل في قلب المنطقة العربية. وإذا بحثنا علميا في ظروف زرعها لوجدنا أنها لا تختلف إطلاقا عن ظروف نموها لتصبح القوة الإقليمية التي نرى اليوم. ولقد شملت هذه الظروف منذ البداية، بل ما قبلها، ما يلي:

التآمر الدولي على المنطقة وشعوبها.

جهل الإنسان العربي بطبيعة إسرائيل، وكذلك بطبيعة المؤامرات التي تحاك ضده.

تآمر بعض القيادات العربية على الصالح العربي العام.

نجاح إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل، في ضمان ديمومة المناخ المساعد على تحصينها من أي خطر إقليمي أو خارجي.

بادئ ذي بدء، لا مجال للفصل بين الاستراتيجية التي قطعت «وعد بلفور» وتلك التي رسمت خريطة «سايكس ـ بيكو». ولئن كانت بريطانيا الدولة التي قطعت «الوعد» وأسهمت عبر السير هربرت صامويل في رعاية حيثياته، كانت الولايات المتحدة بفضل نصيحة كلارك كليفورد للرئيس هاري ترومان أول دولة تعترف بولادة إسرائيل، وفرنسا أول دولة تساهم ببناء الترسانة العسكرية الإسرائيلية من طائرات «الميستير» و«الميراج» إلى مفاعل ديمونة النووي. بل إن الاتحاد السوفياتي السابق كان لفترة جزءا أساسيا من المباركة الدولية الراعية لقيام إسرائيل. ولم يتغير موقفه منها عمليا إلا في منتصف عقد الخمسينات مع اشتداد الحرب الباردة وازدهار «أحلاف التطويق والاحتواء» الغربية للتمدد السوفياتي.

اليوم، بعد أكثر من ستة عقود، وبالرغم من كل الكلام الدبلوماسي المنمق، لا تزال إسرائيل تحظى بالدعم الغربي الذي تحتاج إليه، وبالأخص، في العواصم الغربية الثلاث الرئيسة واشنطن ولندن وباريس. وهذه حقيقة تعرفها جيدا كل القيادات العربية بمعتدليها و«ممانعيها».

أكثر من هذا، بالكاد تغير مستوى فهم الشارع العربي لإسرائيل، ومكامن قوتها وضعفها، وأسلوب ممارستها لحروب السياسة وسياسات الحروب. فما زال هذا الشارع الذي انتقل من تعبئة الشعارات القومية، إلى رايات «حرب التحرير الشعبية»، وصولا إلى البديل الجهادي الإسلامي، قليل الدراية بحقيقة إسرائيل. ومن ثم، ما زال عرضة للنسبة ذاتها من التغرير والمتاجرة الخادعة.. جاهزا لتصديق أنظمة تزعم الإصرار على المجابهة مع أن الفارق الوحيد بينها وبين من لا يجابهون أن هؤلاء لا يجدون غضاضة في مصارحة شعوبهم بذلك، بينما أولئك يخوضون «نضالاتهم» بالكلام والمزايدة. أما إسرائيل فقلما أزعجها النضال الكلامي الكثير، ولا سيما، إذا كان ذا مفعول تضليلي.. يخدّر الناس ويسهّل عقد الصفقات من فوق رؤوسهم.

المشكلة المعقدة الآن لا تكمن فقط في أن النظام السياسي العربي أدرك أنه عاجز عن قهر إسرائيل، بل لأن التطرف الإسرائيلي ما عاد يعرف حدودا، وهو الذي باستيلاده الغضب والحقد دينيا وقوميا أوجد الجو المناسب ـ والمنطقي أيضا ـ لدخول إيران على خط طرح نفسها بديلا عن النظام العربي برمته. وها هي تحمل بهمة «محافظيها» معوَل «إزالة إسرائيل عن الوجود» كما وعد الرئيس محمود أحمدي نجاد.. وإنجاز ذلك في غضون 11 يوما كما قال أحد جنرالاته.

المفارقة هنا، أن إسرائيل تعرف الإيرانيين جيدا. وسبق لها التعامل معهم أيام حليفها السابق الشاه محمد رضا بهلوي، وكذلك في عهد «الثورة الخمينية» إبان فضيحة «إيران – كونترا». وهي تفهم مطامحهم الإقليمية، وتقذّر أهمية إيران الجيوبوليتيكية لها وللغرب. وهي عندما تحرض واشنطن على ضرب إيران، فإنها تدرك أن قرارا بهذه الخطورة لا يؤخذ بالخفة التي مكنتها قبل بضع سنوات من تسويق ضرب العراق واحتلاله.

كذلك، عندما تهدد القيادة الليكودية «حزب الله» في لبنان بكلام مباشر ثم تسحبه، فإنها تتصرف وفق سياسة مدروسة ذات صلة بمستقبل «الحالة الإيرانية»، والعلاقة الإيرانية ـ السورية، والأثمان المطلوبة للترتيبات الإقليمية مع إدارة أميركية بدأ «اللوبي الليكودي» إرباكها وإحراجها داخل الكونغرس.

لقد اهتمت إسرائيل والقوى الداعمة لها بخلق المناخ الإقليمي الابتزازي المناسب منذ قبل هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001. ولا شك أن علاقة بنيامين نتنياهو الوثيقة مع اليمين الأصولي الإنجيلي واليهودي الأميركي باقية على متانتها منذ عقد التسعينات من القرن الماضي. واليوم عندما يتجاهل نتنياهو «إزعاج» المبادرات الليبرالية الأميركية من قبل إدارة باراك أوباما، فلأنه يدرك أن نَفَس أي إدارة أميركية أقصر من أن يستمر عبر ولاية رئاسية كاملة، وأن الانتخابات النصفية الكفيلة بشل البيت الأبيض تكون دائما على الأبواب.

من ناحية أخرى، جاء الانكشاف الإيراني بعد كارثة الانتخابات الرئاسية لكي يربك المعادلة ويقلص هامش المناورة أمام طهران. فالمضي قدما في مشروع جمع الأوراق الإقليمية للمساومة بها مع واشنطن غدا أصعب من ذي قبل. والعد التنازلي في قوة التفويض الشعبي الذي حظيت به إدارة أوباما وتسلحت به مبادراتها، يدفع جميع الجهات ذات العلاقة إلى مزيد من الحذر.

هذا المناخ الإقليمي المرتبك في صالح إسرائيل. وما يجب أن يشغل بال الفلسطينيين واللبنانيين، بالذات، هو أن «سيناريو» الإرباك هذا لا بد أن ينطوي على صفقات «ترضية» و«تفويض» إقليمية في «الخواصر» الرخوة في المنطقة.

ولئن كانت مؤامرة «خنق» القدس تمهيدا لإخراجها نهائيا من أي مساومة تسير بخطوات واثقة، وشعار «يهودية» الدولة يطرح للتغطية على رفض حق العودة.. والتهديد بـ«الترانسفير»، فإن ما يمكن أن يحدث للبنان خلال الأسابيع أو الأشهر القليلة المقبلة يدعو إلى القلق. وكان اللبنانيون شهودا في الأسابيع القليلة الفائتة على أول الغيث.