مقاربات الصراع الطائفي

TT

المسائل أحيانا تتلون وتتأثر وربما تتشكل وفقاً لطريقة مقاربتنا لها، وأيضا أهمية وأولوية القضايا تحددها هذه المقاربة أو منهج التعاطي معها، فتستطيع بذلك أن تدفع وتبرز للأعلى مسائل وتركن وتهمل وتدفع لزوايا النسيان أخرى، الصراع الأبرز والأكثر دموية لصعوبة السيطرة على امتداداته ولأنه غالبا ما يكون أكثر غورا في النفوس وباعثا على إحداث التشقق لا شك أنه حاليا الصراع السني الشيعي، وأزعم هنا بأنه بقدر ما توجد عدد من المسالك لتبريده وتخفيفه، وأخرى قابلة للإيجاد والاجتهاد لتطويقه وإنهائه، فإن إحداها ممكن أن تكون هي طريقة مقاربة الصراع.

فالصراع الذي يبدو بأنه شيعي سني، نستطيع أن نظهره بأنه صراع مقاوم ومهادن، أو ممانع ورافض، أو متشدد ومعتدل، لكون أن خطورة إظهار الصراع بأنه شيعي سني تتأتى من أنه سينتقل بالضرورة ويصبح مجتمعيا، في حين أن نفس الصراع الذي كان يوما يساريا ـ يمينياً لم ينتقل إلى الناس، كونه ظل ذا محتوى سياسي، لذا فالارتفاع بالصراع وإظهاره بأنه سياسي يقلل من حالة التخاصم والتشقق ويجنب المجتمع الصراع.

وهنا نحن لسنا مبتدعين تماما، فأصل هذا الصراع تاريخيا بدأ سياسيا، ثم تطور فيما بعد ليجد له التأصيل الفكري والفقهي، فهناك من ينسب بدايته إلى اجتماع السقيفة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن يرجعه إلى ستة شورى عمر، ومن يراه بأنه حدث في النصف الثاني من خلافة الخليفة الراشد عثمان حتى اغتيال علي وصعود معاوية لسدة الحكم، فيضع إطاره الزمني ما بين (29 ـ41 هـ / 650 ـ661 م) ويعتبر هذه الفترة هي المولدة لانقسامات الإسلام الكبرى بين مذاهب سنة وشيعة، في حين هناك من يربط ذلك بواقعة كربلاء في عام 60 هجرية ومقتل الإمام الحسين، إلا أن المتفق عليه مما سبق أن النشوء الأول بدأ سياسيا ثم بعد أكثر من قرن ظهر التأصيل الفكري والفقهي له.

ففضلا عن أن إيراد ما تقدم جاء يحدوه رغبة التذكير بأن تغير مقاربتنا لهذا الصراع هي ليست مبتدعة أو منقطعة الجذور، فإن له غاية أخرى وهي التدليل بأنه لا الغرب ولا الأمريكان الذين درجنا على أن نحملهم وزر مشاكلنا كانوا موجودين يوم ذاك الصراع! لكن لومهم أتى كونهم تواجدوا في عين عاصفته، حيث التجسيد الأظهر والأشد كارثية ودموية لهذا الصراع الذي بدأت ساحته العراق وامتد وبمستويات متعددة ومتباينة الحدة إلى عدد من مناطق التواجد المشترك، والكثيرون عندنا يلغون ذلك التحقيب التاريخي المعروف وينسبون الطائفية وتأصيلها وتجذيرها إلى زمن مجلس الحكم، كونه قام على معادلة طائفية وأن الحاكم المدني بريمر شكل هذا المجلس على أساسها، وكأن لا الدستور الذي وضعناه بأيدينا ولا تداول السلطة عبر ثلاث وزارات، ولا قيام عمليتين انتخابيتين أن تخلصنا من هذا التأسيس الذي بقينا أوفياء له دون غيره من إرث الأمريكان المفترض! مع ذلك سأكون من قومي وأنهج نهجهم لكن «بمقاربة» أخرى لا تغادر كثيرا منطقة اللوم وجنوح تحميل الآخر مسببات إخفاقنا، بل سآخذ منهجاً مخففا وهو دعوة هذا الآخر إلى تغيير مقاربته لقضايانا.

فبدل حديث الأمريكان وانشغالهم برعاية صفقة ومصالحة بين السنة والشيعة والكرد لحل النزاعات بين المجموعات الدينية والإثنية، وهذا المنهج خطورته، وفي الآن نفسه عقمه، أنه يعيد العراقيين ويعرفهم بأنهم كائنات طائفية ويبقيهم في دائرة سنين الحرب والاقتتال الطائفي ويرهن مقاديرهم بيد أمراء أو حماة الطوائف ولا ينقلهم إلى المستقبل الذي يتيح لهم أن ينظروا إلى أنفسهم من منظار المشاكل والقضايا التي تواجه أي مجتمع ودولة في طريق التكون، غادرت توها حقبة الحكم الشمولي، فهم أثبتوا في الممارسة الانتخابية الأخيرة أنهم منشغلون بقضاياهم ومشاكلهم بالقدر نفسه الذي هم مشغولون بهوياتهم، والتي بمرور الزمن والمساعدة تضمر لمصلحة اصطفافات القضايا، فبدل مقاربة التوتر بين إقليم كردستان والمركز بأنه بين عرب وأكراد يمكن مقاربته بأنه مشاكل تحدث بين أول تجربة لإقليم مع المركز، ونتيجة طبيعية للانتقال من نظام حكم شديد المركزية إلى آخر يوزع السلطات والقوة والمنافع، وكذلك قانون النفط والغاز المتأخر إقراره منذ شباط 2007 ليس لأنه قانون فقط بل لكونه يتعلق بـ95 % من موارد العراق، ولأنه يتحدث عمن يدير هذه الثروة ومن له الحق في تطويرها واستثمارها وإبرام عقودها، والثروة وحدها في بلد ريعي كالعراق تبقيه موحدا أو تدفعه للتقسيم، وهي التي تبقي مكوناته راضية إذا ما تمتعت بحصة عادلة أو تظل مصدر نقمة وإقلاق مستمرين للجميع عند الشعور بالحيف، أيضا قضية المناطق المتنازع عليها تستطيع مقاربتها ليس كصراع بل كتوزيع للصلاحيات بين أمن يديره المركز وجيشه وآخر للإقليم، وكذلك كركوك يستطيع الراعي الأمريكي بضغط، تعززه دالة سابقة وضامنة لاحقا على الأطراف أن يجعلها منطقة ونموذج تعايش بدل أن تبقى كما هي الآن خزان تفجر تجر لها ليس الفرقاء العراقيون فحسب بل دول الإقليم المتوجسة والمترقبة خيفة منها، أيضا العراقيون يقفون متطلعين للعون في مرحلة مصيرية من تشكل بلدهم وهي الأشهر الفاصلة عن الانتخابات العامة مطلع 2010 حيث الصراع ما بين المشاريع الوطنية مقابل قوى أخرى تريد تأسيس التحالفات على الانتماءات وإبقاء الاصطفافات وفقا لها، وليس الانتقال بدلا إلى سياسة القضايا، إذ أن من شأن حكومة تتأسس وفق نفس قاعدة تخندق أن تبقي العراق يدور في فلك مشاكله لسنين أربع قادمة، بل وربما يصبح ذاك بالتواتر عرفا يصعب الفكاك منه، كما أن حظوظ حكومة مستندة على هكذا تحالفات تظل ضعيفة في النجاح في حل الاختلافات والخروج من قاعدة التوافق التي باتت تفهم وتمارس كتعطيل للدولة حتى يتم إرضاء جميع المكونات، في حين أن الطرف المضار سيبحث لنفسه عن أطر خارجها وتعاد بذلك إنتاج نفس المشاكل والتي خطورتها عندنا تكمن لارتباطها بدورة العنف ومزيد من الموت والعذابات.