السيطرة على الأرض

TT

يتحدث مقال أحمد مغربي في جريدة «الحياة» 18 آب 2009، بعنوان «الأقمار الاصطناعية ونظم تحديد المواقع جغرافيا في صراع القوى الكبرى للسيطرة على الأرض»، عن التنافس الشديد الجاري في الفضاء، خاصة في مجال استخدام الأقمار الاصطناعية، للحصول على نظرة أدق وأشمل وأعمق عن الأرض حيث يبيّن موقع علمي أميركي يعود إلى «اتحاد العلماء المهتمين» بأن الأقمار الاصطناعية ترسل 80 ألف إطلالة من الفضاء يوميا على الأرض. ويشير ذلك المصطلح إلى أن «الإطلالة» تشمل أشرطة مصورة وأفلاما مطولة تعمل بالأشعة تحت الحمراء وأشرطة مصورة عن حركة الرياح والأمواج وغيرها. ولذلك يجب تخيل المقدار الهائل من المعلومات التي تتدفق من الفضاء وبالتالي حجم المصالح الدولية التي تغدق الأموال على تطوير هذه الأقمار. وليس عبثا أن الدول الكبرى تتصارع باستمرار على إطلاق الأقمار الاصطناعية وتحسين أدائها، وعلى امتلاك المعرفة الفضائية التي تمكن من استخدام هذه الأقمار لتحقيق سيطرتها في هذا المجال. وفي هذا الإطار لا بد من العودة إلى العبارة الشهيرة التي أطلقها جورج بوش حين قال «لقد انتقل الصراع للسيطرة على الأرض إلى الفضاء» حيث يعطي الصراع بين القوى الكبرى عالميا في نشر شبكات الأقمار الاصطناعية في الفضاء، مدخلا للتأمل في هذه السيطرة الكونية.

والسيطرة على الأرض هو الموضوع المحوري الذي تندرج تحته كل مسببات الحروب من الاحتلال، والاستيطان، والنهب الاستعماري، مهما اتخذت لنفسها من عناوين من «حرب على الإرهاب» إلى «تحرير الشعب العراقي من صدام حسين» و«تمكين المرأة» في العراق، إلى التخلص من أسلحة الدمار الشامل التي برهنت الأحداث أنها لم تكن موجودة في العراق، إلى السيطرة على منابع النيل تحت تسميات إعادة النظر باتفاقيات، إلى اختلاق مشكلة دارفور بين العرب والأفارقة الذين عاشوا دهورا يتقاسمون «الأرض والموارد وشظف العيش وعطاءات الطبيعة». ولكن ومن أجل تقديم منطق مقنع، يلبس لبوسا حضارية، تنسجم والدعاية الإعلامية التي تتبنى مفهوم الغرب الحضاري الممتثل لحكم القانون، فإن الحروب التي تُشن من أجل السيطرة على الأرض تتخذ لنفسها لبوسا تتعلق بالحقوق والأمن ومكافحة التطرف، الذي تم حصره بالإسلام، كي يبقى هذا الأداء منسجما مع مفهوم الغرب الحضاري ولا تتم تعرية الأهداف الحقيقية التي إذا ما تعرت ستظهر العدوانية الحقيقية تجاه الشعوب المسالمة والطمع في أرضها وثرواتها وخيراتها كمحرك أساسي للأعمال العسكرية، والابتزاز السياسي، والعقوبات الاقتصادية التي تمارسها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية على الدول التي ما زالت تصارع من أجل تثبيت دعائم استقلالها الحقيقي.

ضمن هذا الإطار يمكن التوصل إلى الفهم الحقيقي لأسباب الحرب على العراق والحرب على أفغانستان، والحرب اليومية المستمرة على الفلسطينيين وهدم بيوتهم، ومصادرة أرضهم، وحرمانهم من مياههم، وقطع أشجارهم، واعتقال شبابهم. وتخلو وكالات الأنباء الغربية الصانعة لأخبار الترويج للحروب من أي محاولة لتعقب آثار هذه الحروب على الملايين من المدنيين الذين دمرت حياتهم تحت وطأتها، إذ لا يعني صناع هذه الحروب وضع البشر في هذه البلدان بل ما يعنيهم فقط هو الرقعة الجغرافية التي تمت السيطرة عليها وسبل إحكام هذه السيطرة للمستقبل المنظور والبعيد. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد قرأت منذ فترة مقالا يتحدث عن وجود تمور مستوردة في البصرة، ويقول المقال هل يعقل أن يكون في البصرة، بلد غابات النخيل تاريخيا، تمر مستورد؟ ويشير مقال آخر إلى أن العراق الذي اشتهر عبر التاريخ بأنواع نخيله وتموره النادرة قد خسر بسبب الحروب والحصار معظم ثروته التي كانت تصل إلى 45 مليون نخلة لا يوجد منها اليوم في العراق سوى ما يقارب سبعة ملايين نخلة، ناهيك عن تدمير البنية التحتية في كل مجالات الحياة وبث روح الطائفية وافتعال الأعمال الإرهابية لإثارة الفتن والأحقاد رغم وعي وتصميم وتكاتف الشعب العراقي لرفض هذه الفتن. الهدف إذن من كل هذه الحرب، التي لم تستطع وضع مبرر منطقي واحد، هو السيطرة على أرض العراق وثرواته. والأمر ذاته ينطبق على أفغانستان التي تعاني من حرب أدت إلى تفكيك البلد وانتشار الجريمة والإرهاب فيه بطريقة سيكون من الصعب معالجتها حتى إذا توافرت النية الحسنة والإرادة الصلبة الهادفة لمعالجتها. ويعتبر بحث الكاتب كانيش سيتارامان الذي نشر ملخصا عنه في جريدة «الهيرالد تريبيون» في 17 آب 2009 بعنوان «أرض عشرة آلاف حرب» نذير شؤم عن مستقبل أفغانستان وإمكانية إعادة بناء الدولة، بطريقة تضع حدا للصراعات الطائفية والعرقية والدينية والقبلية، التي زرعت بذورها الحرب على أفغانستان بذريعة محاربة الإرهاب، بحيث أصبح الإرهاب اليوم في كل قرية، وعلى كل طريق، وفي كل مكان، الأمر الذي يضمن لمشعلي الحروب السيطرة على الأرض إلى أمد غير معلوم.

والصراع الأوضح على الأرض هو في فلسطين حيث عمدت قوات الاحتلال منذ أكثر من ستين عاما على مصادرة أراضي الفلسطينيين قطعة إثر قطعة، ومعلما إثر معلم، وقرية إثر قرية، ومنزلا إثر منزل، وتعمد اليوم إلى تهويد المكان والاسم لتغير معالمه مرة وإلى الأبد، وترفض رفضا نهائيا طرح مسألة ملكية الأرض على طاولة البحث، حتى وإن بقي الفلسطينيون يحملون مفاتيح منازلهم التي أخرجوا منها بقوة السلاح وثبوتيات امتلاكهم للأرض والديار التي استولى عليها المستوطنون بقوة السلاح وطردوا أهلها الأصليين الذين توارثوها أبا عن جد منذ آلاف السنين. وللتغطية على هذا الموضوع الأساس اخترعت لنفسها أسطورة الصراع الديني والعداء للسامية، وأخيرا وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول ركزت على خطر التطرف الإسلامي وحاجة إسرائيل إلى الأمن، وكأن التطرف اليهودي الذي يهجّر السكان من بيوتهم ويستقدم مستوطنين من كل أنحاء الأرض أقل خطرا على أمن الفلسطينيين والعرب وحياتهم ومستقبل أبنائهم!! ومفهوم الخطر الذي تروج له الدعاية المعادية للعرب هو مفهوم عنصري بامتياز لأنه يصور كل عربي بأنه مصدر للخطر بينما يصور جندي الاحتلال المدجج بالسلاح والمستوطن المسلح الذي يطرده من منزل بناه هو ويجلس مكانه في هذا المنزل، بأنه خائف على أمنه وحياته. وصور المعتقلين والمعتقلات في فلسطين كل يوم تروي قصصا لا حصر لها عن أناس انتزعوا من ديارهم وعُصبت أعينهم وأوقفوا ضد حائط أصم من قبل عسكري مدجج بالسلاح انتهك كل الحرمات والشرائع والقوانين الدولية ومع ذلك ترفق الصورة بأكذوبة متداولة أنه هو الذي يخشى على أمنه وأن ضحاياه هؤلاء هم الذين يهددون أمنه.

في إطار منظور السيطرة على الأرض تأتي هذه الحمى الاستيطانية التي ابتلعت خيرة الأراضي الفلسطينية والتي تعمل اليوم لابتلاع القدس الشرقية والضفة الغربية في عملية تهويد سافرة للأرض والمقدسات.

من هذا المنظور، تأتي زيارة وفد مجلس الشيوخ الجمهوري برئاسة السيناتور مايك هاكبي إلى مبنى فندق شيبرد في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية، تحديا سافرا لطبيعة وقدسية المكان واستهانة بأسس الحقوق الفلسطينية في هذه المدينة. والأمر الأكثر دلالة في هذا الصدد هو أن المانحين الأميركيين لجمعية تشجيع الاستيطان في القدس الشرقية يستفيدون من إعفاء ضريبي تمنحه حكومة الولايات المتحدة للهيئات الداعمة لـ«المشاريع التربوية»!! وأشارت صحيفة «هآرتس» إلى أن أصدقاء منظمة «عطيريت كوهانيم» الأميركيين جمعوا في السنوات الماضية ملايين الدولارات لهذه الجمعية الساعية لتهويد القدس الشرقية. وأقر مسؤول حملة جمع الأموال دانيال لوريا أن هذه الجمعية الدينية المتطرفة تعمل على «ترسيخ الجذور اليهودية في القدس الشرقية من خلال إنقاذ الأرض»، أي من خلال السطو على الأرض وسلبها وها هو هاكبي يقيم حفلا في فندق شيبرد في حي الشيخ جراح في القدس العربية الذي صادرته إسرائيل وكذلك الأرض المحيطة به عام 1968، وبدأت الأشغال لبناء عشرين وحدة في هذا الموقع الشهر الماضي على الرغم من احتجاجات المجتمع الدولي. وكل ما يروج عن أمن إسرائيل والخوف من التطرف ومحاربة الإرهاب هي لبوسات يصنّعها محترفون امتهنوا تصنيع الأغطية لسرقاتهم التي لا علاقة لها من قريب أو بعيد بحقيقة ما يفعلون. والواقعون في شراك الأغطية هذه والقانعون بجدواها يتحدثون عن التفاوض كطريق وحيد مع من يقتلعهم كل يوم نبتةً إثر نبتة، وحجرةً إثر حجرة، ودارا وراء دار، فيما يرون في من يشاركهم المصير المأساوي ذاته الخصم الوحيد لهم. ولهؤلاء أقول: هل قرأتم ما نشرته «يديعوت أحرونوت» في 9 آب 2009 بأن 66% من الإسرائيليين يعتبرون سيادتهم على القدس غير قابلة للنقاش وأنه من حق إسرائيل أن تبني مستوطنات في أي مكان تشاء؟ فهل هناك من يقرأ اللغة الحقيقية «للسيطرة على الأرض» وهل هناك من يتذكر أن الأرض هي أغلى ما يملكه البشر، أو لم تكن الأرض دوما سبب الحروب بين البشر ومصدر نزاعاتهم لأنها أثمن ما يملكون؟