الجنود المجهولون في أرض المعركة

TT

منذ ستة أعوام مضت قتل والدي سيرجيو فيرا دي ميلو في حادث مأساوي في بغداد غيّر وجه عالم الإغاثة الإنسانية، عندما انفجرت شاحنة محملة بالمتفجرات في مقر الأمم المتحدة أودت بحياة 22 شخصا من العاملين في مجال الإغاثة الإنسانية وأدت إلى جرح كثير من الأشخاص. بيد أنه مع مرور كل هذه السنوات لا يزال كثيرون من العاملين في مجال الإغاثة الإنسانية معرضين للخطر.

ترأس والدي فريق الأمم المتحدة في بغداد، وقبل أيام قلائل من مقتله كتب لي: «الوضع هنا صعب للغاية، لكننا سننجح، لأننا سنقوم بذلك مع الشعب العراقي». وقد قاسمه عزمه على خدمة المعوزين العراقيين آلاف عمال الإغاثة حول العالم الذين ضحوا بوقتهم وطاقتهم وأحيانا كثيرة بحياتهم لمساعدة المحتاجين في الأماكن التي تقتل فيها الحرب وتشوه وتلقي بالضحايا الأبرياء إلى معسكرات اللاجئين أو النفي، وتأتي دارفور وتشاد وجمهورية الكونغو الديمقراطية كأمثلة بسيطة على تلك المناطق.

واعترافا بجميلهم، سعت عائلتي إلى جعل يوم 19 أغسطس (آب) ـ الذي قتل فيه والدي وزملاؤه من عمال الإغاثة خلال مساعدة المعوزين ـ يوم الإغاثة العالمية، وبعد مناقضات مع منظمتنا، دعمت البرازيل وفرنسا واليابان والسويد وسويسرا قرار الأمم المتحدة الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11 ديسمبر (كانون الأول). ولذا أصبح اليوم رسميا للمرة الأولى مناسبة للنظر في الموقف الخاص بالإغاثة الإنسانية المنتشرة في هذا المجال.

ومن الحزن القول إن الظروف السيئة التي يعمل فيها موظفو الإغاثة الإنسانية آخذة في التدهور في كثير من المناطق، فيشير معهد التنمية الخارجية في تقريره إلى ازدياد وتيرة الهجمات على عمال الإغاثة منذ عام 2006. وتعد أقاليم دارفور وأفغانستان والصومال أكثر المناطق خطورة، حيث وقع بها نحو 60% من الهجمات التي شنت ضد عمال الإغاثة.

وقد كان العام الماضي الأسوأ خلال 12 عاما، حيث تعرض 260 من عمال الإغاثة إلى القتل والاختطاف والإصابات الخطيرة خلال أعمال العنف، بحسب ما ذكره المعهد. وتتجاوز الحصيلة النهائية عدد الضحايا بين قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.

وقد عززت القنبلة التي قتلت والدي حقيقة تعامل معها عمال الإغاثة الإنسانية منذ بداية التسعينات؛ وهي أن علم الأمم المتحدة لم يعد مقاوما للرصاص. ولم يعد عمال الإغاثة الإنسانية التابعون للأمم المتحدة يحظون بالحماية كأعضاء المنظمات غير الحكومية.

قبل التسعينات كانت الحروب في الدول المتقدمة عبارة عن حروب وكالة، وكان هناك نوع من اتفاقية «الجنتلمان» الضمنية تعهدت فيها الدول الكبرى باحترام حقوق عمال الإغاثة الإنسانية قدر الإمكان.

لكن ذلك لم يحل دون موت كثير من عمال الإغاثة الإنسانية، لكن غالبية الضحايا كانوا في المكان الخطأ في الوقت الخطأ وفي مرمى النيران، فنادرا ما كان يتم استهداف عمال الإغاثة.

على الرغم من التغير الدراماتيكي للموقف ومع ارتفاع لهجة القومية منذ سقوط الشيوعية ونهاية حروب الوكالة، فإنه لم يعد عمال الإغاثة يتمتعون بأية حماية، بل صاروا مستهدفين هذه الأيام.

إننا نتحدث عن الأفراد الذين يعملون على الخطوط الأمامية نيابة عن البعض منا ممن تدمع أعينهم لمشاهدة أطفال يبكون إلى جوار جثث أمهاتهم اللاتي قتلن بقذائف المورتر ويؤمنون بضرورة القيام بشيء ما لمساعدة هؤلاء الضحايا ومن هم على شاكلتهم.

إن عمال الإغاثة هم الأبطال المجهولون في زمننا، واللذين لم يتلقوا التكريم الملائم، حيث يقومون بإقناع أمراء الحرب بالسماح لهم بمساعدة الضحايا الأبرياء الذين يواجهون الحرارة والبرد والمرض والأخطار الأخرى.

لم يملكوا المال الكافي أو الأفراد للاستجابة الكاملة إلى المتطلبات، لكنهم ينهضون كل صباح وهم يعلمون ضخامة المهام التي سيواجهونها، ويستمرون في عملهم على الرغم من شعورهم بأن ما يقومون به مهما كانت ضخامته فسيكون بمثابة نقطة في بحر. وهو قادرون على تقديم المساعدة وبإمكان جهودهم أن تنقذ مزيدا من الأرواح، لكن أولئك العمال يدركون أن عملهم يسهم في حل بعض أسوأ المشكلات العالمية.

حقيقة مهمة عمال الإغاثة قد تثير الإحباط في نفوس كثيرين منا. لكن عزائمهم لا تفتر. فقد أخبرني أحد عمال الإغاثة ذات مرة: «ليس لنا حق في أن نيأس عندما نرى أولئك الذين فقدوا كل شيء حتى أسرهم ولا يزالون يتشبثون بالأمل».

إن الوقت مناسب للمجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته ووقف الاختباء وراء العمليات الإنسانية. يجب ألا يعمد المجتمع الدولي إلى استخدام الإغاثة الإنسانية كورقة توت. فلم يعد بمقدوره تجنب اتخاذ قرار وفي الوقت ذاته يرسل وبوعي كامل عمال الإغاثة إلى مناطق القتال، فهناك أرواح في خطر.

ونظرا لشجاعتهم وتصميمهم وكرمهم وتواضعهم، يستحق عمال الإغاثة التكريم منا اليوم. يجب علينا أن نمتدح عملهم ونذكر العالم بأن علينا حمايتهم، وأن نضغط على أمراء الحرب إذا ما كان لديهم أي مشاعر إنسانية متبقية بضرورة حماية ومساعدة عمال الإغاثة. كما يجب أن نذكر العالم أيضا أن عمال الإغاثة الإنسانية محايدون يساعدون المحتاجين مهما كان لونهم أو جنسهم أو دينهم أو مشاربهم السياسية. فهم يستحقون تقديرنا وشكرنا.

* الكاتبة رئيسة «مؤسسة سيرجيو فيرا دي ميلو»

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»