مساحات!

TT

من الواضح أن شهر رمضان المبارك تكثر فيه العبادات ويسارع الناس فيه للقيام بكل ما من شأنه أن يقربهم لله ويكثر من حسناتهم بالصلاة والدعاء وقراءة القرآن وإفطار المساكين وإعطاء الصدقات لمستحقيها وغيرها من وسائل ونماذج العبادة. ولكن بقدر الاهتمام المتزايد بشكليات ومساحات العبادات، هناك قصور مهول في المعاملات خلال هذا الشهر الكريم.

فمن غير المعقول أنه لأجل اللحاق بالصلاة أن تصطف السيارات بشكل عشوائي في الطرقات حارمة الناس حق المرور بسوية وسلامة واحترام، أو المضايقات خلال الصلاة نفسها ومراقبة تصرفات الغير ونهيهم عنها بشكل مستفز أو إزعاج الناس بمايكروفونات ترفع أصواتها لدرجات لا يمكن وصفها إلا بالتلوث السمعي، مع عدم إغفال الكم المهول من المأكولات التي يتم هدرها ورميها في النفايات وسلات القمامة باعتبارها فائضا عن الحاجة، وكيف يمكن نسيان انخفاض إنتاجية العمل لمستويات متدنية وخطيرة تؤثر على قطاعات عديدة وتعطل مصالح الناس وحقوقهم.

طالما استمر التركيز والاهتمام على الجانب الظاهر للعبادات (وهي مسألة مطلوبة ولا ريب) وإهمال علاقتها المباشرة بجانب المعاملات وكيف أنها إذا لم تسهم في تهذيب النفوس وتحسين أخلاق الناس فإن قيمة العبادة نفسها تقل. للمسلمين الحق في أن يسروا بامتلاء المساجد وزيادة التقوى ومخافة الله والإقبال الكبير على أعمال الخير خلال شهر رمضان وازدياد كل ذلك بمعدل سنوي ملحوظ عاما بعد عام، إلا أنهم في ذات الوقت عليهم التمعن جيدا كيف استمرت الفجوة في اتساع بين العبادات والمعاملات بهذا الشكل المفزع.

النظافة بشكل عام إلى أسوأ، حال المدن العربية لا يسر، ومعدل النظافة في المدن الكبرى إلى انحسار مؤلم، والإسراف في استخدام المياه والكهرباء وصلت معدلاتها إلى مراحل باتت تشكل أزمة يعاني منها السكان ويستشعرون ذلك بموجات انقطاع لم تعد غريبة وتحولت إلى واقع مألوف. والأخطر فكرة «قبول» شهر رمضان على أن العمل فيه تحول إلى مسألة اختيارية وأنه لا داعي للحزم في إشكالية الدوام والإنتاج، وكل ذلك أصبح عرفا أو يكاد وهي مسألة سندفع ثمنها (ونحن ندفع اليوم بدايات ذلك) بشكل درامي وخطير.

فالانتقاص من قيمة العمل وأهميته وقدسيته بالسكوت عن القصور في أداء الواجبات فيه وعدم تذكير الناس بأن العمل هو عبادة فعلا، يكوّن عقلية مؤدية للفساد والبطالة والفوضى وغيرها من الآفات الخطيرة والعلل العظيمة. رمضان تحول من شهر للحياة «الطبيعية» في الطاعة والعمل وممارسة التوازن الحقيقي بين الطاعة والعبادة إلى أوكازيون سنوي للاحتفال بالشهر بعبادات مركزة على حساب معاملات حيوية لتهذيب النفوس وسوية المجتمع، ولن تستقيم الأمور حتى يكون الميزان دقيقا وحساسا بين المعاملات والعبادات.