وفاة كنيدي تطوي صفحة تاريخ قديم وجديد

TT

سألني صحفي شاب، مساء الأربعاء، عما إذا كان الإعلام القومي ـ والحديث عن بريطانيا ـ بالغ في تغطيته خبر وفاة السناتور إدوارد (تيد) كنيدي (1932 ـ 2009) في أسبوع ازدحم بأخبار مثيرة؟

أجبته بأن محرري الصحف ونشرات الأخبار همهم الأول زيادة التوزيع، وأعداد المستمعين والمشاهدين؛ وخبر وفاة آخر من بقى من الرعيل الأول لعائلة كنيدي السياسية، اجتمعت فيه عناصر ما يهم المستهلك الإعلامي البريطاني والعربي والعالمي.

وفاة تيد كنيدي تطوي صفحة تاريخ بدأت بثورة اجتماعية في أمريكا انتقلت منها لأوروبا وبقية أنحاء العالم. وأثناء صراعه الأخير مع الموت الذي قصفه بقذائف السرطان، بدأ فصل تاريخ جديد لاستكمال ما بدأه شقيقه الأكبر جون ف. كنيدي (1917 ـ 1963) من إلغاء اللوائح العنصرية في ولايات الجنوب، وتحقيق المساواة، وقص شريط افتتاح بستان حلم السلام العالمي (ونبتاته موسيقى البيتلز، والزهور والحب وحركة السلام)؛ وبلغت الزهور نضجها في مهرجان موسيقى وودستوك 1969 (ولم ندرك كخريجي جامعات جدد وقتها أهمية الحدث الذي يعتبره المؤرخون أيقونة نجاح الثورة الكنيدية في الحب والسلام، عندما تبادل شباب من الجنسين من بلدان في حالة حرب، الزهور والحب واسطوانات الموسيقى، فلم يمتلك أحد وقتها كاسيت ناهيك عن الآي ـ بود).

وتطبيقا لثقافة وودستوك، اتخذ كنيدي، قبل 15 عاما، الخطوة الأولى لكسر طوق الجليد الذي أنهى الصراع الدموي في شمال أيرلندا بحكمة بالغة ومبادرات شجاعة، وهو جميل لا ينساه البريطانيون حيث جاءت هدنة منظمة الجيش الجمهوري الأيرلندي، بفضل كنيدي، في منتصف التسعينات وقت تفجير المنظمة الجمهورية للقنابل في قلب أحياء المال والاقتصاد في لندن.

بالنسبة للشرق الأوسط كان لكنيدي مواقف رآها الفلسطينيون والعرب عادلة، ونادرة، من ساسة أمريكا وقتها، رغم أن شابا عربيا (سرحان سرحان) اغتال شقيقه الآخر روبرت عام 1968.

نجح كنيدي في استكمال فصل تاريخ بدأه شقيقه الأكبر، جون، بالعودة بأمريكا إلى مركز قيادي عالمي للسلام والتنمية؛ بإلقاء ثقله وراء باراك أوباما بدلا من هيلاري كلينتون، ليس ليكون مرشح الحزب الديمقراطي فحسب، بل ليدعمه بقوة، مما ساعد التيار الشعبي الجارف على دفع أوباما للنجاح في دخول البيت الأبيض (ومن المشكوك فيه أن تكون هيلاري كلينتون قد تمكنت من النجاح في انتخابات الرئاسة).

انتخاب أمريكا لأول رئيس أسود في التاريخ، غير تماما من نظرة العالم لأمريكا وخاصة جيل الشباب بعد كلمة أوباما التاريخية يوم تنصيبه، وهنا سينظر المؤرخون إلى بعد نظر كنيدي وتقديره لإمكانيات أوباما كامتداد لجون كنيدي (وهو ما لم يتمكن بيل كلينتون من تحقيقه).

فعائلة كنيدي، بعد انتخاب جون للرئاسة، وانشغال شقيقيه، السناتور روبرت (بوبي) ف. كنيدي (1925 ـ 1968) وتيدي كنيدي بالسياسة، وأولادهم، ضمن لهم شعبية، مستمرة لأربعة عقود، تشبه شعبية العائلة الملكية في أكبر وأهم وأقوى جمهورية عرفها التاريخ.

ورغم أن شبكات التلفزيون العالمية بالأقمار الصناعية والإنترنت لم تكن عرفت بعد (كان جهاز الفاكس وقتها حكرا على أقلية وحجمه يبلغ حجم فرن الغاز في المطبخ) فإن جون كنيدي ألهب خيال محبي الحرية والديمقراطية حول العالم، رغم أن العالم وقف على حافة الحرب النووية أثناء أزمة الصواريخ في كوبا في أكتوبر (تشرين الأول) 1962 (كشفت طائرات الاستكشاف الأمريكية صواريخ بالستية تحمل رؤوسا نووية في كوبا، تصل المدن الأمريكية في دقائق مما جعل التوازن النووي يميل لصالح موسكو). حكمة جون كنيدي ـ والذي كان يستشير شقيقه السناتور روبرت باستمرار ـ أنه اتخذ موقفا متشددا من السوفيت، جعلهم يسرعون بسحب الصواريخ من كوبا. هذا الموقف المتشدد سحب البساط من تحت أقدام الجمهوريين واليمين الذي اتهم كنيدي بإضعاف أمريكا أمام العالم، فقد بين للرأي العام أنه لا يتردد في المواجهة العسكرية للدفاع عن الوطن ومبادئ العالم الحر.

وكانت إصابة الرئيس كنيدي في الحرب العالمية الثانية وتعلقه أياما ببقايا زورق بحري جعلته مصمما على السعي للسلام والبدء في محادثات الحد من الأسلحة الذرية. كما أنه حول المنافسة مع السوفيت من المجال العسكري إلى ميدان العلوم، وزيادة ميزانية العلوم والفنون ووكالة ناسا وبدأ البرنامج الذي وصل قمة نجاحه بهبوط الأمريكان على القمر.

وبعد اغتيال الرئيس كنيدي، توقع الديمقراطيون الأمريكيون أن يحمل كنيدي آخر مشعل التقدم، لكن روبرت كنيدي تعرض للاغتيال عام 1968، وتعرض إدوارد، بعد عام لفضيحة غرق فتاة كان يصاحبها في حادث سيارة كان يقودها وسقطت في بحيرة، وأخطأ بعدم تبليغ البوليس إلا في صبيحة اليوم التالي. وأجهزت الفضيحة على آماله في دخول البيت الأبيض، فركز على جهوده في مجلس الشيوخ في الكونغرس.

في المجلس كان مهندس قوانين كثيرة منحت حقوق المساواة للسود، وقوانين حماية الحريات والحقوق الليبرالية خاصة بعد توليه رئاسة اللجنة العمالية والطاقات البشرية عام 1986، ووصفه المراقبون وقتها بأنه «شوكة في خاصرة الرئيس (رونالد) ريغان»؛ إذ كان يقنع مجلسي الشيوخ والنواب بمعارضة قرارات كان ريغان يصدرها، ورآها مناهضة لحقوق العمال؛ وبإصداره قرار منح حقوق إضافية في مجال الرعاية الصحية في فترات مرض كانت شركات التأمين ترفض دفع رسومها للمريض.

أما أهم إنجازاته على هذه الناحية من البحيرة الأطلسية فكان دوره في بدء مسيرة السلام في أيرلندا الشمالية في منتصف التسعينات، رغم اتهام البروتستانت له (وهو كاثوليكي) بدعم «إرهاب» الحركة الجمهورية، حسب قول الراعي ايان بيزلي زعيم الديمقراطيين الوحدويين.

أثبت كنيدي دهاء سياسيا بكسب ثقة الجناح المتطرف في الحركة الجمهورية، بإقناع الرئيس السابق كلينتون بمنح جيري آدامز، زعيم حزب شين فين، الجناح السياسي للجيش الجمهوري، تأشيرة دخول؛ رغم حصول لندن على تأكيدات من واشنطن بإدراج المنظمة على لائحة الإرهاب ورفض دخول أعضائه أمريكا، مما أغضب حكومة جون ميجور المحافظة وقتها.

وبعد كسب كنيدي ثقة شين فين، أقنعهم بفرض هدنة ومنع الجيش الجمهوري من زرع القنابل مقابل التفاوض المباشر، حاملا الرسالة إلى حكومة ميجور في لندن، ثم تطورت المحادثات إلى اتفاق الجمعة العظيمة في أبريل (نيسان) 1988 بين قطبي الصراع تحت رعاية رئيس الوزراء السابق توني بلير في قلعة ستورمونت بخطبته الشهيرة «أشعر بيد التاريخ فوق كتفي»، ومشاركة الحكم بين الكاثوليك الجمهوريين والبروتستانت الملكيين، منهية أجيالا من الصراع الدموي.

ولعلها أهم ما في تركة السياسي الكبير الغنية بالإنجازات، في مشوار استمر 40 عاما في الكونغرس، وقبلها ثماني سنوات كسياسي تحت التمرين مع شقيقيه الكبيرين.