بدري.. يا عم محمود

TT

كان محمود عوض على برنامج كل زيارة إلى القاهرة. وكان رفقة متوترة جميلة وحماسة لا تفتر. وكان رقيبا على الأمم والصحافة والفنون، يريدها أن تصطف جميعا في خدمة القومية العربية واليسار الذي رفض أن يقر بذوبانه. وذات مرة ذهبت إلى القاهرة بعدما كنت قد كتبت ثلاث مقالات في نقد لطفي الخولي وجماعة الدانمارك ودور لطفي فيها. واعتقدت أنني عندما أقابل محمود سوف يكون راقيا إن لم يكن سعيدا بأنني انضممت إليه في ذلك. لكنني عندما قابلته في بهو الفندق فوجئت به يصرخ من بعيد بغضب: «مالك يا عمي، مالك حنيّن كده على لطفي الخولي».

كان لقاء محمود في القاهرة يعني زيارة المقاهي الشعبية أو العشاء في عبّارة على النيل أو الغداء في مطعم طعمية وكشري. لم يخلع قميص الغلابة النصف كم. ومرة أهداه صدام حسين، مع مجموعة كبيرة، سيارة مرسيدس. لكنه جاء يقلّني في سيارة قديمة تسير أحيانا على أربعة دواليب وأحيانا على ثلاثة. وسألته ماذا حدث للمرسيدس فصرخ معترضا كعادته: «مرسيدس إيه يا عم، القاهرة كلها بتتريق علينا».

كان محمود يكتب في «أخبار اليوم» ويريد الانتقال إلى «الأهرام». وكنت أشعر بذلك. وعندما زرت رئيس التحرير، الزميل أسامة سرايا، رجوته أن يفتح الباب لمحمود. ووعدني بأنه سيفعل وعند الظهر، حول الطعمية والكشري، أخبرته بما فعلت. وتفتح صدره المليء بالسعال وبقايا السجاير وانفرجت حنجرته المحملة بالبحات وقال فرحا: «صحيح يا سمير؟ طب أسامة قلك إيه».

كان ذلك قبل ثلاث سنوات أو أكثر. وشعرت بأنها آخر مرة أرى فيها هذا الموتور القومي الحماسي الغاضب المحاسب. فقد كان وجهه الأسمر ضاربا في الصفرة مثل ليمونة منسية. وكان يكح ويسعل وصدره يصفر ثم يسعل ويكح وصدره يطلق فيه خرير المياه كأنه نهر من النيكوتين. ومع ذلك كان يسحب سيجارة ويشعلها وينفخها في وجوهنا. ثم يسعل. وقلت له في حرص حقيقي، ما هذا الانتحار السخيف يا محمود؟ على ماذا؟ وطلبت إليه أن يجلس ويتفرغ ويعد كتابا عن تجربته للزميلة «المجلة».

وبعناده المعروف اعتذر. أمامه مهمة لا بد من إنهائها. إحياء القومية العربية وتحرير الضفة الغربية وضرب العقل العربي قلمين وتأديب أمريكا. وبعدين بقا نبقى نفكر!

أمس نعي إليَّ صديق كان مليئا بالحياة، لم يكن ممكنا أن يريحه إلا الموت.