فتح العين على (البعد السياسي).. في جرائم الإرهاب

TT

يفصلنا عن ذكرى 11 سبتمبر النكدة أيام خمسة. وكان المقدر أن نكتب مقالات (جديدة) ـ في المعلومات والتحليل ـ عن تلك الحادثة الشؤم، لكن أحداث بلادنا بدلت الأولويات تبديلا، نقصد محاولة اغتيال الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز، على أن الروابط بين هذه الأمور ليست معدومة من حيث (البعد السياسي(.. سواء صحت الرواية الأميركية الرسمية عن 11 سبتمبر (وهي رواية تعرضت لمطاعن جدية من جهات عديدة معتبرة، أميركية وغير أميركية)، سواء صحت تلك الرواية أو كانت مجرد (غطاء تضليلي) يبعد الأعين عن (مؤامرة كبرى) محتملة، فإن الحقيقة التي لا ريب فيها هي أن الحدث المنكود قد سُيِّس، أي وُظف سياسيا لخدمة أغراض سياسية أهمها غرضان: غرض تقبيح صورة الإسلام.. وغرض الهجوم السياسي والفكري والإعلامي الكاسح ـ وغير المسبوق ـ على النظام الاجتماعي والسياسي للمملكة العربية السعودية. وكأن المقصود من الحدث كله ـ وما تلاه ـ هو: زعزعة الثقة السياسية بهذا النظام. فبسرعة مريبة انتزع الحدث من سياقه الأمني (الجنائي) التقني ليصبح (أزمة سياسية) تتعلق بأوضاع السعودية وحاضرها ومستقبلها. فلم يكد الحدث النحس يقع حتى تكثف الضوء على الـ15 سعوديا الذين قيل إنهم شاركوا في الجريمة (لا نملك أية قرينة تنفي وجودهم في الزمان والمكان، ولكنا نجزم بأنهم مجرد أدوات شحنت في الطائرات، ربما من أجل توفير مصداقية للرواية المعلنة)!!.. ثم أن في اختيار هذا العدد من السعوديين لغز مشحون بالخبث السياسي. فقد كان رأي أسامة بن لادن: أن يُختار من كل بلد عربي شخص واحد حتى يتفرق دم الأميركيين في البلاد العربية كلها!! وحتى يتعاطف كل شعب عربي مع (بطله) الذي يحمل جنسيته ويشارك في تفجيرات نيويورك وغيرها. بيد أن بن لادن تنازل ـ بغتة ـ عن رأيه بناء على مشورة تقول: إنه من الأنسب والأجدى اختيار معظم المشاركين من الجنسية السعودية.. فهل هذا محض مصادفة؟!.. ليس في العمل السياسي مصادفات. ومما يدل على انتفاء المصادفة: ما جرى بعد الحدث. فلم يكد هذا الحدث يقع حتى شنت حملة ضارية، أشد ما تكون الضراوة ـ حتى بدت وكأنها معدة مسبقا ـ: حملة شملت كل شيء سعودي: مناهج التعليم، والبنية العقدية والثقافية، والنظام الاجتماعي والسياسي والقضائي الخ.

وهذا (بُعد سياسي) لا ينبغي أن يغيب في ضجة الإرهاب وصخبه عن ذوي الفكر والقرار السياسي.

نعم. إننا أمام قضية سياسية من المرتبة الأولى.. خلاصة هذه القضية هي (توظيف الإرهاب ـ إن لم نقل صناعة الإرهاب ـ لأجل خدمة أجندات سياسية معينة).

وليس من العلم والعقل في شيء: الزعم بأن صناعة الإرهاب أو توظيفه تعني أن دوائر التخطيط الماكر هي التي غرست (الاستعداد للإرهاب والعنف) في نفوس الإرهابيين. فأي قوة في هذا الكون لا تؤدي عملها إلا إذا وجدت جهازا قابلا. فالشيطان ـ مثلا ـ قوة شريرة ولكنها لا تفعل فعلها إلا من خلال جهاز سيكلوجي بشري يستجيب لها ويتجاوب معها: «إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون. إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون».. وكذلك تفعل الدوائر التي تريد تدمير العالم الإسلامي من داخله، فهي دوائر توظف (طاقة التدين المنحرف) لدى نفر من المسلمين، وتقود هذه الطاقة في طريق تحقيق أهدافها، على حين أن أصحاب هذه الطاقة زُيِّن لهم سوء عملهم فرأوه حسنا!!

في هذه السياقات السياسية، ينبغي قراءة (البعد السياسي) في العمليات الإرهابية في السعودية، وهي عمليات بلغت ذروتها أو (بجاحتها) في محاولة اغتيال مساعد وزير الداخلية السعودي للشؤون الأمنية: الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز.

والمفتاح السياسي لهذه القراءة هو: أن السعودية (مستهدفة) ـ سياسيا ـ من خصوم شتى ـ إقليميين ودوليين ـ والمستهدف ـ بالتحديد ـ هو: استقرارها.. ونهضتها.. وخيارها الإسلامي الذي هو قاعدة الاستقرار والنهضة.

إن السعودية تتهيأ وتتأهب للإقلاع إلى مستقبل وضّاح السنا، مفعم بالفرص الحسنة، والاحتمالات الجيدة الواعدة.

وقاعدة الانطلاق أو الإقلاع هي:

1ـ استقرار سياسي تراكمت عناصره القوية على مدى أكثر من مئة سنة.. ثم تجددت عراه وتوثقت بخبرات وآليات ومخصّبات جديدة.

2ـ طاقة نفطية هائلة تمثلت في عائدات ضخمة.

3ـ هذه العائدات تتحول إلى صور غائية متنوعة: علمية وتعليمية (تنتج طاقة بشرية كثيفة العدد).. إلى غير ذلك من صور النماء ومجالاته.

4ـ طاقة روحية تصل الناس بربهم، وتحفظ طاقاتهم من التبدد والضياع وتصونهم من مخاطر الانبهار والذوبان والتبعية الحضارية العمياء.

5ـ خيار إسلامي انبثق منه اعتدال في النهج الفكري يحمي المجتمع السعودي من التطرف العام (وجود شراذم متطرفة هو الشذوذ الذي يؤكد القاعدة العامة). ومن هنا، فإن الاعتدال ليس مجرد فضيلة شخصية، بل هو ـ كذلك ـ (سنة اجتماعية) ـ ضرورية ـ لاستقامة حياة المجتمع، واطّراد نظامه واستقراره. ولذا يحرص الأعداء على هدم المجتمعات من خلال تشجيع الغلو والتطرف، على حين يزعمون أنهم يكافحون الغلو والتطرف!! (وهذه قصة مظلمة تتطلب حكايتها كتابا كاملا).

ولو تُركت السعودية وشأنها لنهضت وتفوقت بمعدلات مضاعفة، ولحققت لنفسها ـ ولربها من قبل ـ ما تريد: حاضرا ومستقبلا ـ بحول الله وقوته ـ بيد أن الخصوم ـ هنا وهناك وهنالك ـ لا يودون رؤية هذا البلد العربي الإسلامي الأصيل وهو يقلع إلى مستقبل عزيز عظيم جميل. فماذا عساهم يفعلون لتحقيق أمانيهم في التخذيل والتعطيل؟.. الحرب المباشرة غير مستطاعة.. وشق القيادة مستحيل.. والمساومة على الإسلام والنهضة مرفوضة بعزم وحزم. وبإزاء هذه الأبواب الموصدة ليس أمامهم إلا محاولة ضرب الاستقرار وتعطيل النهضة بالعمليات الإرهابية التي يجندون لها أدوات عمياء يمكن أن تموت على سوء الخاتمة بالانتحار المحرم حرمة مغلظة ومحكمة في شريعة الإسلام.. وكون هذه الأدوات لها محرك ـ ومحرض سياسي ـ لا يقلل ذرة واحدة من تبعتها الذاتية عن جرائمها، فلولا استعدادها الذاتي لما استطاع المحركون المحرضون أن ينالوا مبتغاهم، وبالعودة إلى المثل السابق عن الشيطان، فإن هذا اللعين يقول: «إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم».

وإذا كان الهدف السياسي لخصوم المملكة هو: زعزعة الاستقرار وتعطيل التنمية والتشكيك في الخيار الإسلامي: بكثرة التلفت إلى مغامرات الإرهاب وجرائمه، فإن الرد المكافئ ـ والمتفوق ـ هو:

أولا: المزيد من العقلانية والهدوء والسكينة.. لماذا؟ لأن من أهداف الإرهابيين ـ ومَن وراءهم ـ: خلق حالة من القلق والهلع وفقدان ميزان العقل.. ولابد ـ والحالة هذه ـ من حرمانهم مما يبتغون وذلك عبر مزيد من سيادة العقلانية والهدوء والسكينة: سكينة المجتمع السعودي ورباطة جأشه، وعظيم توكله على الله عز وجل، في ظل قيادة تتمتع بهذه الصفات ذاتها.. والسوابق مبشرة جدا.. فمن الظواهر المصاحبة للحروب ـ مثلا ـ: وجود هلع عام، واضطراب في المعيشة والأسواق والخدمة المدنية. لكن هذه الظواهر انتفت في المجتمع السعودي في أثناء حرب تحرير الكويت، على الرغم من أن النظام العراقي ـ يومئذ ـ قد خص السعوديين بكميات إضافية من الحقد والتهديد والصواريخ. ومع ذلك ظل السعوديون يتمتعون بالهدوء والسكينة والتعقل في حياتهم الخاصة، وفي معايشهم وأسواقهم وشؤونهم الإدارية، وكأن الحرب دائرة في كوكب آخر!!

ثانيا: مزيد من الوحدة الوطنية.. ولو علم الإرهابيون ومحركوهم بما تحقق من الوحدة الوطنية والتفاعل الصدوق الوثيق بين آل سعود والشعب السعودي ـ إثر حادثة الاغتيال الآثمة ـ لما أقدموا على مثل هذا العمل من حيث أنه عمل أتى بعكس ما خططوا له!!

ثالثا: مزيد من الثبات على الإسلام.. لا شك في أن خصوم السعودية ـ من كل جنس ـ يضمرون كراهية عميقة لخيارها الإسلامي ـ عقيدة وشريعة ـ. ولا شك أنهم يظنون أن الجرائم الإرهابية التي تنتحل اسم الدين الإسلامي ستتسبب في رد فعل ينتهي ـ في حسابهم الوهمي ـ بانفصام ما بين الدين والدولة، على تقدير أن الدين يتسبب في أذية الدولة«!!!!».. وهذا محض وهم. فآل سعود من الفهم الصحيح لدين الإسلام، بحيث يتمكنون دوما من التفريق التام بين الإسلام الحق وبين الغلو فيه والانحراف باسمه.. وبناء على هذا الفهم: يزدادون استمساكا بالإسلام، ومكافحة للمنحرفين باسمه.. فالملك عبد العزيز كافح الغلو وظاهرة الانحراف بالدين: بالإسلام الحق.. وحين قام جهيمان بفتنته، قمعت هذه الفتنة فكريا وشرعيا بالإسلام الحق.. وفي الحالة الإرهابية الراهنة، وجدنا ذات الثبات العظيم على الإسلام.. ففي أول كلام له ـ بعد حادثة الاغتيال الفاجرة ـ قال الأمير نايف بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية: «إن منهج المملكة الثابت هو عقيدة الإسلام وشريعته وهما الحاكمان على كل تشريع وتطور وتصرف وسلوك. ونحن مستمرون على نهجنا في التعامل مع كل ظاهرة وحدث بموجب الشريعة، ومستمرون في الإبقاء على باب التوبة مفتوحا لكل من يريد أن يتوب بصدق وإخلاص».. والعبارة الأخيرة ذاتها برهان على الثبات على منهج الإسلام. فتشريع الحرابة ختم باستثناء خاص للتائبين: «إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم».. فاستنقاذ صرعى الإرهاب من مصارعه ليس تكتيكا أمنيا، وإنما هو تطبيق أمين لشرعة إسلامية تغلق أبواب اليأس، وتفتح أبواب الأمل في حياة جديدة: أمام الذين استزلهم شياطين الإنس، واستدرجوهم إلى مستنقع العنف والدم والانتحار وسوء الخاتمة.

يا دولة التوحيد هل لك مطفئ ربي يضيئك والعتيق يليك

و(العتيق) هو البيت الحرام، ففي التنزيل «وليطوفوا بالبيت العتيق».