النسخة الأخرى من التاريخ

TT

روى الدكتور أحمد الخطيب التاريخ الكويتي من وجهة نظر شخصية وإيديولوجية. وفي جزأين من «الكويت.. من الدولة إلى الإمارة» رأينا زعيم حركة القوميين العرب يغلّب الحدة على الهدوء. ولست أدري إلى أي مدى يمكن للإيديولوجي أن يحافظ على الموضوعية المفترضة في السرد التاريخي. المعاصرون الكويتيون وحدهم يستطيعون أن يناقشوا هذه النسخة من التاريخ الاستقلالي، وأن يتبينوا، أو يبينوا، مواضع الدقة ومواقع الحماس.

بالنسبة إليَّ، كشاهد خارجي متابع لمعظم حقبات المرحلة، شعرت أن الدكتور الخطيب، طوعا أو اضطرارا، أنصف اثنين من أهم الرجال الراحلين في تاريخ الكويت: المؤسس عبد الله السالم، الذي وضع ركائز وأعمدة الدولة الحديثة، والمؤسس الثاني، جابر الأحمد، الذي في عهده وعهدته عادت الكويت من فم السبع العراقي المتربص بها منذ أيام نوري السعيد.

في سرده، يظهر الشيخ عبد الله السالم كرجل حكمة وترفع ومهارات سياسية كثيرة، في الداخل وفي العلاقات الخارجية، وفي المناورات البالغة الذكاء على الإنجليز. فقد كان يعرف ما يغضبهم، فيتحاشى ذلك، لكنه يترك للآخرين أن يفعلوا ويحذو حذوهم. ولا حول ولا قوة. يريد أحمد الخطيب القول، إن أمير الكويت لم يكن أقل قومية من شارعها الحماسي.

المؤسس الثاني، صورة أخرى. هناك معرفة واسعة وعميقة في شؤون المال والنفط. لكن قبل أي شيء، هناك قلب كبير. ذات يوم يكتشف الطبيب أحمد الخطيب أن مريضه الهندي مصاب بسوء التغذية. فسأله عن حياته فقال إنه يتقاضى 20 دينارا في الشهر، عليه أن يأكل منها وأن ينام وأن يرسل إلى قريته ليسدد الديون التي عليه وعلى أسرته. روى الخطيب الأمر أمام مجموعة من الأصدقاء فأبلغوا به جابر الأحمد. وبعد يوم واحد كان الأمير يرفع الحد الأدنى للأجور من 20 إلى 70 دينارا. وهو، جابر الأحمد، الذي وقف في الأمم المتحدة يطالب بإلغاء ديون الدول الفقيرة.

على كل صفحات «ذكريات العمل القومي» يظهر جابر الأحمد دوما في ما كان عليه: الرجل النبيل والمتجرد والمترفع. والرجل الصابر الصبور على مماحكات السياسيين. ولا يحظى الشيخ سعد العبد الله بمثل هذا التوفير من كاتب المذكرات. بل هو رجل عديد الأخطاء في كل المراحل. وبسبب تصرفاته تم فصل ولاية العهد عن رئاسة مجلس الوزراء. وفي الجزأين، الأول والثاني، يبدو الخطيب وكأنه يلاحق ثأرا قديما من الشيخ سعد. وتكرارا، ليس لنا أن نحكم على دواخل الأمور كما عاشها الرجل، فنحن لا نعرف أكثر من الصور الظاهرة.