خادم الحرمين: (الحرام والأقصى وحدة روحية).. فليفهم الأمريكان والإسرائيليون

TT

إسرائيل (لا تريد السلام)، أو تريد سلاما (على هواها): تأخذ كل شيء، ولا تعطي شيئا.. هذه هي الحقيقة القانونية والسياسية والأمنية والتاريخية المستنبطة من خلال ستة عقود من الصراع مع هذا الكيان في المنطقة.

وكون الإسرائيليين خصوما، لا يجيز لنا أن نتهمهم بلا دليل.

فما الدليل على دعوى أنهم لا يريدون السلام، أو يريدون سلاما منسوجا من أمانيهم وأهوائهم هم وحدهم؟

يطول الكلام جدا، إذا استعرضنا سجل الأدلة التي تثبت هذه الدعوى. نكتفي بأقرب دليل وهو رفض إسرائيل ـ بصور شتى ـ لـ(مبادرة السلام العربية(.

لقد لبث الإسرائيليون زمنا طويلا يمضغون ـ بلا سأم ـ مقولة : إن العرب لا يريدون السلام. وبنوا على هذه المقولة إستراتيجيات سياسية عبر منابر الأمم المتحدة ومراكز البحوث، والمؤتمرات والندوات، ووسائل الإعلام، وأجهزتهم الدبلوماسية جميعا.

من الناحية النظرية أو الجدلية سقطت أو تراجعت هذه المقولة الصهيونية. فالمبادرة العربية نص سياسي متكامل لمسألة السلام أو التسوية و)مقتضياتها).. وأهم مقتضى: زوال الاحتلال الذي جرى 1967.

لم تتفتح العين الصهيونية إلا على (التطبيع) في هذه المبادرة. مع أنه تطبيع ـ وفق نص المبادرة ـ مشروط ـ بقوة ووضوح وتوكيد ـ باسترجاع الحقوق العربية كافة، وفي مقدمتها: الانسحاب الإسرائيلي إلى حدود 4 يونيو عام 1967.. وإقامة الدولة الفلسطينية.. وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.. والسيادة العربية على القدس العربية.. يضاف إلى ذلك استرجاع الأراضي السورية واللبنانية المحتلة إلى سيادة الدولتين.

ولو كانت إسرائيل تريد (سلاما حقيقيا) لسارعت ـ بما يشبه الهرولة ـ إلى (تلبية) المطالب العربية التي تعني ـ ضمن ما تعني ـ (التضحية المرة) بفلسطين التاريخية أي التي احتلتها الصهيونية عام 1948.

بيد أن إسرائيل لم تسارع ، بل اثاقلت علي نحو يؤكد (كفرها) التام بالسلام الحقيقي.

وما دمنا في سياق الأدلة (حديثة العهد بالوعي)، فإن قادة الصهيونية المستكبرين ، أو العميان: اخترعوا معادلة تدل ـ هي ذاتها ـ على كفرانهم بالسلام الحقيقي: معادلة (التجميد الجزئي) للاستيطان مقابل (التطبيع الكلي) مع العرب!!.. ومعنى هذه المعادلة: انسوا أيها العرب نسيانا تاما قضايا: الدولة الفلسطينية على حدود 4 يونيو 1967.. وعودة القدس.. وعودة اللاجئين إلخ إلخ.

انسوا كل هذا وتعالوا إلى ما نحب نحن، ونهوى نحن.. تعالوا إلى (التطبيع) من جانبكم جميعا.. مقابل إيقاف جزئي للاستيطان في الضفة من جانبنا!!

بل إن التجميد الجزئي نفسه لا يشمل (القدس). فقد أعلن بنيامين نتنياهو: أن القدس إسرائيلية 100 في المائة، وليست مجرد مستوطنة، ولذا فإن التغيير والتوسع في القدس يجب أن يكون خارج نطاق التجميد الجزئي للاستيطان!

ثم جرى تصديق الخدعة أو الكذبة الإسرائيلية هذه ـ هنا وهناك ـ وها هم الأمريكيون يشتبكون مع الإسرائيليين في قضية تجميد الاستيطان!

وبمناسبة الأمريكان، فإن الشكوك العاصفة تدور حولهم: حول مُشَرِّعيهم بالذات، فقد وقع أكثر من مائتي نائب أمريكي على مذكرة موجهة إلى العاهل السعودي: الملك عبد الله بن عبد العزيز.. وخلاصة المذكرة هي: أن تبادر السعودية إلى اتخاذ خطوة تطبيعية تجاه إسرائيل!!

لماذا المملكة العربية السعودية بالتحديد؟

لأنهم يعلمون (وزن) المملكة الإقليمي والعربي والعالمي ـ يعلمون أن المملكة هي (مفتاح) العالم الإسلامي ومدخله.. ويعلمون أن وزن السعودية في العالم الإسلامي يستند إلى معطيات عديدة في طليعتها: الصبغة الإسلامية الواضحة لطبيعة النظام الاجتماعي والسياسي السعودي.. وولاية المملكة على الحرمين الشريفين.. والرصيد السياسي ـ النزيه والمشرف والمبكر ـ للملك عبد العزيز بإزاء القضية الفلسطينية.

نعم.. النواب الأمريكيون أصحاب المذكرة إياها يعلمون ذلك كله، ومن هنا كتبوا مذكرتهم.

بيد أن هؤلاء النواب (جهلوا): أن تلك المعطيات ذاتها هي التي ترسم مواقف المملكة ورؤاها تجاه القضية الفلسطينية: رسما فطنا عادلا عاقلا مسؤولا.

مثلا: قضية القدس (التي يستخدمها أناس للمزايدة السياسية) إنما هي قضية ذات رابط عقدي وروحي وثيق مع مكة المكرمة.. وهو رابط جدد الوعي والإحساس به الملك الأصيل الصريح عبد الله بن عبد العزيز.. ففي رسالته لمؤتمر حركة فتح قال الملك عبد الله: «من ربوع البيت الحرام استذكر الآية الكريمة: «سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير». إنني أشعر أن هذه الآية الكريمة قد أقامت وحدة روحية حقيقية خالدة لا تنفصم بين الذين يؤمون المسجد الحرام وبين المقيمين في رحاب المسجد الأقصى.. ومن هذا المنطلق تجيء رسالتي هذه من الأرض المقدسة: لا تحمل مشاعري فحسب، بل مشاعر أكثر من ألف مليون عربي ومسلم».

إن الملك عبد الله بن عبد العزيز ـ هاهنا ـ: ممثل أمين لمقدسات الإسلام ومترجم نزيه لـ(الوحدة الروحية) بينها. كما أنه ناطق رسمي باسم أكثر من مليار مسلم، أي ناطق رسمي باسم خمس سكان الكوكب الأرضي من البشر.

وهذا (قدر) المملكة العربية السعودية، و(قدر) قادتها: القدر الكوني والديني معا.. فبالقدر الكوني جعل الله مكة بلدا حراما يوم خلق السماوات والأرض.. وبالقدر الديني الشرعي :نيطت الولاية على مكة المكرمة بولاة الأمر فيها، وعلى شؤون الحج.. وهذا مبحث مؤصل في (السياسة الشرعية): بسط القول فيه الماوردي وغيره من علماء السياسة الشرعية. ثم هناك (مُعطى) آخر: جد مهم: تنطلق منه السياسة السعودية في سياق الحقوق الفلسطينية وهو (معطى الحق والعدل). فالسعودية لا تنظر إلى هذه القضية من منظار عنصري عرقي، ولا من منظار تعصب ديني، فالمشكلة ليست مع (اليهود) المسالمين، فهؤلاء أهل كتاب يجري التعامل معهم بهذه الصفة (أهل كتاب) مع ما في هذا التعبير من اعتراف ولطف وتعايش كريم متسامح.. وإنما المشكلة مع الصهاينة (المحتلين).. وفي مواجهة الاحتلال ـ في كل زمان ومكان ـ يتوجب إعمال مقاييس (الحق والعدل)، وهي مقاييس تقول ـ بوضوح ودقة : ـ إن الصهيونية ظلمت الفلسطينيين وجارت عليهم باغتصاب حقوقهم وتشريدهم من أرضهم.. وحين تستعمل السعودية هذه المقاييس، فإن ساحة التأييد للقضية تتسع لتشمل أصحاب الضمائر الحرة في العالم كله: بمن فيهم أحرار اليهود وعقلائهم وعدولهم.

والمعاني والمفاهيم والمعطيات تنثال ـ في هذا المجال ـ بلا انقطاع، ولذا يضاف إلى ما سبق :أسانيد ومعطيات سعودية أخرى تشكل ـ في مجموعها ـ الموقف السعودي الصلب والمتبصر نحو مذكرة النواب الأمريكيين :

1ـ إن هذا الموقف برهان ساطع على (استقلالية القرار السعودي).. فمن الحقائق السياسية المعروفة: أن العلاقة السعودية الأمريكية قوية منذ نشأتها وحتى اليوم، بيد أن القرار السعودي ظل مستقلا ـ بعزة وشموخ وصحة حساب ـ وهو استقلال لم ينعكس بالسلب ـ قط ـ على مجمل العلاقات، مما يدل على أن هذا الأمر مقدر ـ بعمق ـ من أطراف العلاقة جميعا.. وهذه حقيقة تبطل أقاويل وتهاويل الذين يتهمون السعودية بـ(التبعية)، وهم في التبعية سقطوا.

2ـ إن السعودية تدرك مخاطر (اللعبة الصهيونية) التي ستنزل أفدح الأضرار باليهود أنفسهم عند التحليل أو الاستنتاج النهائي.

إن إسرائيل تطرح التطبيع المجاني لكي تحقق أحد هدفين :

أولا: هدف أن يتحقق التطبيع المجاني، أي بلا مقابل تقدمه إسرائيل للفلسطينيين والعرب.. وبذلك تحصل الحركة الصهيونية على مكسب سياسي تاريخي: يرتضيه العرب: حبا فيها، وهياما بها.. ثم تستقر المنطقة وكأن شيئا لم يكن!

ثانيا: هدف أن يترتب على التطبيع اضطرابات أمنية واجتماعية وسياسية مفتوحة على المجهول.. ولا يحسبن أحد أن إسرائيل ستكره ذلك، بل إن زلزلة استقرار المنطقة هدف إستراتيجي لها وفق نظرية تقول: (إن استقرار إسرائيل وتقدمها مشروطان باضطراب العالم العربي وتخلفه).

ولكن ما الذي أعان الإسرائيليين على ظلمهم وتكبرهم وأوهامهم؟

أعانهم على ذلك:

أ‌- حكومة يمينية مشبعة بالتطرف العرقي والديني.

ب‌- عرب: «تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى».

ج - فلسطينيون: «تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى» أيضا.

د- إدارة أمريكية (تتمنى) ولكنها(لا تستطيع)!.