العرب في الميزان الدولي

TT

لم تكن المعركة التي خاضها وزير الثقافة المصرية فاروق حسني من أجل تولي منصب المدير العام لـ (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، يونيسكو)، معركة خاصة به كشخص بأي معيار، فقد تعاضدت قوى كثيرة وعديدة، وتآزرت سفارات ووزارات كي لا يذهب هذا المنصب الهام إلى أي عربيّ، مهما كانت جنسيته أو مواصفاته، بغض النظر عن كونه من دول الاعتدال أو الممانعة، وما إذا كان المرشح مناصرا للشعب الفلسطيني أو صامتا، بسبب الإحباط أو الاستكانة أو التزلف لعدو قاهر، عن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل وحلفاؤها بحق الفلسطينيين كل يوم.

كان انتماء السيد فاروق حسني العربي كفيلا بأن يعمل سفراء الدول الغربية دون كلل أو ملل ضده، وأن ينسحب البعض الآخر لصالح المرشحة البلغارية، وأن تجيّش كل الأدوات التي تؤدي إلى نجاح البلغارية إيرينا بوكوفا في الاقتراعات المتتالية كي تصبح مديرا لمنظمة اليونيسكو.

بعد هذه المعركة اكتشفوا أنها أول امرأة، فألقوا الضوء على نجاح امرأة، وركزوا على أهمية مساواة النوع الاجتماعي بينما كانت حقيقة المعركة هي أنها ضد أن يستلم أي عربي هذا المنصب، فربما سيعلن في المستقبل «احتجاجه على تدمير التراث الإنساني والثقافي في القدس»، ومن يعلم، فإنه قد ينفذ من منصبه إلى محاولة إنقاذ بعض التراث العربي والإسلامي في القدس. ولكنّ المشكلة هي أن العرب دخلوا في دائرة وهْم اختلقتها لهم القوى الغربية، فتارة تقسمهم إلى بلدان، وتارة إلى طوائف متنازعة أو حتى قبائل متقاتلة، وربما إلى أحزاب متصارعة حتى الفناء، ثم تمعن في تقسيمهم، فهذا معتدل وذلك ممانع والآخر متشدد، أو هذا علماني والآخر إسلامي، وهلم جرا.

ورغم أنّ الغرب لم يصدّق أنه استطاع بعمله هذا إلغاء الانتماء العربي من قلوب وضمائر العرب، فإن بعض العرب، للأسف، بدأ «يتأقلم مع الواقع» فيؤمن بتلك التقسيمات، فيتصرف مع أشقائه على أساس تلك الفروقات المصطنعة بين عربي وآخر، رغم وجود الشواهد والحوادث التي تثبت للجميع أنهم في الغرب لا يميزون بين مواطني قطر عربي وآخر، فالجميع في نظرهم عرب وهم يسبغون أسوأ الصفات على العربي منذ عصر الحروب الصليبية ثم الاستشراق إلى الحقبة الصهيونية، وإلى ما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، والتي وضعت العرب والمسلمين في خانة الإرهاب، ليتم التهديف عليهم قتلا وتهجيرا واحتلالا واستيطانا ونهبا للحقوق وهدرا للمصالح.

وفي مثال السيد فاروق حسني وأمثلة أخرى عديدة لا تحصى، يثبت لنا تاريخ التعامل الغربي مع العرب، أن الاحترام المكتسب هو نتيجة لعوامل القوة التي يمتلكها العرب، ولا يمكن استجداء هذا الاحترام وهم في وضع الفرقة والضعف والاستهداف. وقد جادلت طويلا أن احترام العرب لا يمكن أن يتحقق دوليا ما لم يتحقق قوميا أو إقليميا، وما لم يحترم أحدنا الآخر داخل البلد الواحد، وما لم نكتشف أن عبارات (س أولا) بالإشارة إلى أي بلد عربي، هي عبارات مصطنعة بأيدي الأعداء لتعزيز الفرقة، وهي خارجة عن السياق العربي الحقيقي، والذي هو سياق مشترك واحد، وخارجة عن إطار الهوية العربية الحقيقية، والتي هي هوية موحدة واحدة.

هل تنجح مثل هذه الأحداث بإقناع البعض منا ممن اعتقد بأن الغرب يفضله على أشقائه إذا وقف معه، أن المؤازرة بين العرب هي وحدها التي تجلب لهم الاحترام، لأنها الوحيدة التي تكسبهم القوة والمنعة. فلو مارست دول عربية ضغوطا حقيقية من أجل قضية تتعلق بمواطن من مواطنيها أو بلد شقيق يتعرض للتهديد أو الضغوط أو الحصار، لاضطر العالم أن يصغي وأن يوافق. أما وأن البعض منا يقفون ضد مصالحهم الذاتية من خلال استبدال الخطر الإسرائيلي بخطر آخر، ومن خلال اتباع سياسة «الإرضاء» أو الرضوخ تجاه الضغوط الغربية أسلوبا للنجاح، فلا عجب أن تأتي النتائج مخيبة للآمال في أية نقطة مفصلية.

رغم كل اعتراضات الغرب على إيران، فقد أصرّت معظم وسائل الإعلام في العالم على الحديث عن خطابين مهمين في الأمم المتحدة، خطاب الرئيس أوباما وخطاب الرئيس الإيراني أحمدي نجاد. ورغم كل القلق الذي يدعيه الغرب من إيران فهم غير قادرين على تجاهلها أو عدم احترامها، لأنها تمتلك العلم والمعرفة والطاقة التي جعلت منها قوة إقليمية عظمى لا يمكن تجاهلها، وعندما حاولوا إضعافها فإنهم استهدفوا وحدة صفوف قادتها وشعبها وبث الفرقة بينهم لاستمالة البعض منهم ليخدم عن جهل أو عمالة، المصالح الغربية.

القوة هي الشيء الوحيد الذي يكسب البلدان احتراما، بغض النظر عن الموافقة أو عدم الموافقة على ما تقوم به هذه البلدان. لقد اضطرت الولايات المتحدة أن تتخلى عن درعها الصاروخية لكي تكسب روسيا إلى جانبها في المعركة التي تقودها الولايات المتحدة ضد إيران. كم هي مهمة إذن إيران؟ وسبب أهميتها هو أنها تعمل على امتلاك أسباب القوة، بينما يعتبر أهم أسباب ضعف العرب هو أنهم يفرّطون بقوتهم ويبعثرون إمكاناتهم قطريا وقوميا وإقليميا ودوليا، ومن ثم يتخيّلون أن العالم يمكن أن يحسب لهم حسابا لأنهم على علاقة شخصية بهذا الرئيس الغربي أو ذاك، أو لأنّ هذا السياسي الغربي زارهم أو قدّم لهم دعوة لزيارته في مكتبه لمدة ربع ساعة؟! وكأنهم لم يسمعوا بالقاعدة السياسية الأميركية الذهبية التي يتعاملون بها مع الآخر: «لطيف مع الأشخاص وشديد في القضايا»، مهما كان الأسلوب الشخصي لطيفا ووديا، فلا علاقة له بالموقف الحاسم والمهم من القضايا، وهذه هي إحدى المسائل التي يتوجب على العرب أن يفهموها ويدخلوها في قاموس تعاملاتهم، فلا يطير الواحد منا فرحا إذا زاره أحد «الخواجات»، لأن هذه الزيارة تندرج في إطار أولويات دولهم، وليس في إطار أولوياتنا العربية، ولأنهم يتحركون وفقا لبرنامجهم، وليس وفقا لبرنامجنا، ولا يقنطون إذا ما اتخذت دول موقفا قلقا منهم، لأنهم قد يكونون يعملون في الإطار الذي يخدم قضاياهم على حساب قضايا الطامعين بهم وبثرواتهم، أي إن منظومة العمل والتقييم العربية بحاجة إلى تطوير وتحديث ومواءمة مع منظومات العمل والتقييم الغربية كي لا نعيش في الأوهام ولا نرتكز على ركائز لا يعترف أحد بها في علاقاتنا مع الآخرين.

من هذا المنظور بالذات، والذي يؤدي إلى استضعاف للعرب لأنهم يستضعفون أنفسهم، يقف رئيس وزراء كيان مغتصب يرتكب القتل والتدمير كل يوم ليقول «نحن لسنا غزاة»، وهو الذي يسلب الفلسطينيين كل يوم أرضهم ومياههم وحياتهم، وليشير إلى ما جرى لهم في ألمانيا النازية، وكأنه مبرر كاف لارتكاب كل تلك الجرائم الوحشية بحق شعب لا صلة له من قريب أو بعيد بما حدث لهم في ألمانيا منذ أكثر من سبعين عاما، وليخاطب الدول في الأمم المتحدة بلهجة عنصرية فوقية، وكأنه يخاطب ضحاياه من المدنيين الفلسطينيين. إذ خاطب نتنياهو أعضاء الجمعية العامة من رؤساء دول ووفود بالقول «ألا تخجلون» أن تحضروا خطاب الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، ومع ذلك لم يردّ عليه أحد ولم يحتج عليه أحد، فالكل جلس مستكينا لا يريد إثارة غضب «التحالف الغربي» مع إسرائيل.

والأكثر من ذلك أنه وضع شرطين مسبقين لأي مفاوضات مع الفلسطينيين، أولهما «الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل» و«عدم الانسحاب أبدا إلى حدود 1967»، ومع ذلك قال إنه يريد «مفاوضات دون شروط مسبقة» من قبل الفلسطينيين. وبالنسبة لنتنياهو لا يختلف لديه العربي الذي تناول معه طعام الإفطار في رمضان، عن أي عربي آخر يطالبه بالقدس والدولة الفلسطينية وحقوق العودة للاجئين. وقد تحدث عن «اللاجئين وذريتهم» بنوع من الاستهانة العنصرية المتعالية، لأن العرب لم يستجمعوا عناصر القوة كي يأخذوا للأسرى واللاجئين ولأطفال ونساء غزة حقوقهم الإنسانية المشروعة وفق القوانين والأنظمة الدولية، وها هي المنظمات التابعة للأمم المتحدة ولجان التحقيق تؤكد على عنصرية وجرائم إسرائيل بحق الفلسطينيين والعرب، والنظام الرسمي العربي نائم مستكين وليس فعّالا إلا في الفرقة والتشرذم.

إن تجربة السيد فاروق حسني تضاف إلى أحداث عديدة برهن الغرب خلالها أنه يرى جميع العرب كعرب لا فرق بين معتدلين وممانعين، ولا فرق بين أبناء قطر أو مذهب وآخر، فهم جميعا أبناء محمد (صلى الله عليه وسلم) يشغلون التقييم نفسه التي رسمته الصهيونية وأعوانها. فمتى يبدأ هؤلاء العرب الذين ظنوا بأشقائهم الظنون، استمالةً منهم للغرب، برؤية أنفسهم في الضوء ذاته وبالطريقة ذاتها، كي يتعاضدوا ويتكاتفوا ليرفعوا من شأن أنفسهم؟ آنذاك فقط يمكن أن ينالوا المقاعد الدولية والاحترام الدولي المطلوبين بعناء أقل ومعارك أسهل.